قصص قصيرة جداً

ثماني قصص قصيرة جداً للكاتب الفلسطيني محمود شقير، فنان القصة القصيرة الذي نشر اربعة مجموعات قصصية بالاضافة الى عشرات الروايات والكتب الأخرى.

خريطة

 

الرجل يمشي في شوارع المدينة متمهلاً،

تأخذه الخريطة التي يحدق في خطوطها المتعرجة إلى أماكن شتى، تأخذه أحياناً إلى لحظات من الحب، تأخذه إلى العزلة والأسى في غالب الأحيان.

المرأة تمشي في شوارع المدينة،

تأخذها الخريطة إلى أماكن محددة، المرأة تشعر أن كل خطوة من خطواتها ينبغي أن تكون محسوبة بدقة متناهية، كي لا تعرض نفسها لاحتمالات مربكة.

المطر يهطل فوق المدينة، يغرق الشوارع والساحات، الرجل يلقي بالخريطة في عمق الماء، الخريطة تطفو فوق الماء، وتمضي مبتعدة.

والمرأة، في لحظة حنق، تلقي بالخريطة في عمق الماء، تستسلم للخريطة التي في داخلها، والرجل يستسلم للخريطة التي في داخله.

بعد خمس دقائق يلتقيان،

الرجل يستقبل المرأة بابتسامة متلهفة كأنه ينتظرها منذ أعوام، والمرأة تفعل الشيء نفسه كأنها تنتظره منذ أعوام.

الرجل يتقدم خطوة أخرى نحو المرأة، غير أن خريطة مترامية الأطراف، تهبط من مكان ما، تسد الفراغ الضيق بينهما، ولا يعود أحدهما قادراً على رؤية الآخر، أو مجرد الوصول إلى أطراف أصابعه.

 

تماثيل

 

التماثيل المنصوبة على الجسر الكبير،

استقالت من عملها في الساعة التي تغلق فيها المحلات التجارية أبوابها، ويعود الناس إلى بيوتهم متعبين.

الملك القديم خلع تاجه، نزل عن العرش، ومضى في الشارع مثل سائر خلق الله.

الغزالة تلفتت يسرة ويمنة، لتتأكد من خلو الشارع من الصيادين، وانطلقت فوراً إلى الغابة.

الرجل والمرأة اللذان كانا في عناق دائم،

اتجها إلى موظف الاستقبال في بهو الفندق السياحي، وطلبا منه غرفة بأي ثمن.

الوحيد الذي بقي في مكانه، هو تمثال الأم التي ترضع طفلها، لأن الطفل نام، فلم تشأ أمه أن تعيد ثديها إلى داخل الثوب،كي لا ينزعج الطفل، ويستيقظ من رقاده اللذيذ.

 

الأرملة

 

ماتت الأرملة.

ماتت بعد ستين سنة من رحيل زوجها الحبيب.

صبرت الأرملة على مصابها عشر سنوات، لم يتقدم لها الخطاب لطلب يدها من جديد، ربما لأن لديها أربعة أطفال، وربما لأن ثمة أسباباً أخرى.

جاءها العشيق دون مقدمات، كان شاباً وسيماً يصغرها بخمس سنوات. رأته وهي تنشر غسيلها على السطح القريب، كان في عينيه ظمأ، وفي عينيها ظمأ.

لكنه، بعد أقل من سنة، مات.

قبل موتها، رأت نفسها في حلمها الأخير وهي تخرج متوكئة على العصا نحو السطح القريب، رأت شابين يجلسان على الحافة الملساء، تتعرف عليهما في الحال، تهم بدعوتهما لاحتساء القهوة، وللتحدث، في حياد تام، عما فات.

غير أنها تقلع عن ذلك، وتعود إلى سرير موتها، وهي تسمع الشابين يسألانها في وقت واحد تقريباً: هل بوسعنا أن نقدم لك خدمة ما، أيتها الجدة الطيبة؟

 

 

السوق

 

ذهبت وحدها إلى السوق.

كان السوق غاصاً بالخلق من كل الأشكال.

ذهب وحده إلى السوق.

كان السوق خالياً، وليس من أحد سوى حارس عجوز يقف أمام بوابة مبنى مغلق.

قالت له فيما بعد: انتظرتك عند أول السوق. قال لها: انتظرتك عند آخر السوق. حدقت فيه بنظرة اتهام، حاول إقناعها بأنها هي أساس الخطأ. في تلك اللحظة، مر الحارس العجوز، حدق فيهما لحظة ومضى دون كلام.

تلمست المرأة ساقها من خدر طارئ، وابتعدت مثل سهم في الظلام.

 

خوف

 

يهبطون إلى الوادي السحيق.

يهبطون وفي أيديهم السلال، وعلى ظهورهم المثخنة بالشقاء بطانيات وخرق من قماش، مربوطة على أوعية من نحاس قديم.

يهبطون، وهم يرقبون بحذر، الظلمة المحتشدة في الآفاق البعيدة.

وفي البيوت التي لن يعودوا إليها إلا بعد أشهر طويلة، ثمة نسوة يجلسن في الصمت بعد أن أحكمن إغلاق الأبواب والشبابيك، وأحكمن سدّ المسالك المؤدية إلى فراغ القلوب المربك الذي يكبر في ليالي وحدتهن القاسية.

 

 

عيون

 

للقاتل أن يوزّع دمنا على الأماكن مثلما يشاء.

له أن يرسلنا للموت فرادى أو جماعات، وله أن يغسل يديه من دمنا في ساعات ما بعد المساء، ثم يذهب إلى بيته، الذي كان بيتنا، وينام.

وله أن يصحو من نومه بعد منتصف الليل بقليل، يتأمّلنا واحداً واحداً، ونحن نحتشد في غرفة نومه ، فلا يتذكّر في أيّ شارع أطلق علينا الرصاص. يتقلّب في فراشه متأرّقاً، ونحن نجلس من حوله على كراسي بسيطة من القش، أحضرناها معنا بالصدفة، ونظلّ نحدّق في عينيه طوال الوقت، ولا نبادله أيّ كلام.

 

 

الطفل

 

تعود إلى بيتها في المساء، تدفع عربة الطفل، والطفل يتابع بعينيه كل شيء يراه، ويظل صامتاً كما لو أنه يفكر في المجهود الذي تبذله أمه. تنتظر الترام. تبقى الأم واقفة على قدميها لأن عربات الترام مليئة بالركاب. وتظل متيقظة كي لا يضرب أحد الركاب بقدمه احدى عجلات العربة، والطفل لاه عما حوله، وعلى صوت الضجيج الرتيب ينام. 

 

 

عيد الشرطة

في عيد الشرطة، مرت عربات قديمة من أمام البنسيون. العربات تسير في بطء ومن شبابيكها يطل شرطيون وشرطيات. الشرطيون يبتسمون للجمهور الواقف بالصدفة على الأرصفة، (كما لو أنهم قطعوا دابر اللصوص ثم جاءوا يحتفلون!) والشرطات يلوحن بأيديهن ويضحكن في بعض الأحيان (كما لو أنهن يتذكرن قصص حب غابرة). وأنيشكا تنظر من خلف الزجاج، تتابع المهرجان لحظة ثم تبتعد، كما لو أنها لا ترى سوى زوبعة في فنجان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *