جريمة قتل

“القاتل دائمًا إنسان خائب.. فاشل”.
قصة قصيرة للكاتب محمد علي طه.

كان سالم النجار يدخّن سيجارته بكسل وينفث دخانها

الرمادي ببطء ويتابع خيوطه وغيومه اللولبية التي تملأ

مساحة ما في فضاء الغرفة. وفجأة قال: «الحب الذي كان

بيننا مات!» وسكت.

ردّت ليلى وهي تحدق في شعر رأسه الأغبر المنفوش

وابتسامة غامضة تحوم على محياها الأسمر: «أنت الذي

قتلته!». فردّ سالم بدون أن يلتفت اليها: «لا تبحثي عن

مشجب لتعلقي عليه أوهامك!»، وتابع كلامه بعد أن صمت

فترة قصيرة «وكي لا تغضبي – أحكامك!».

ومجّ نفسًا من السيجارة وأضاف: النتيجة هي المهمة. ولا

يحتاج أحد منا للبحث عن السبب أو الأسباب. سبق أن قلت

لك قبل أيام «ما عاد شيء يثيرني » حتى جسدك. غرفتنا

صارت باردة.

مدت يدها اليمنى الى جيب معطفها الرمادي تبحث عن

ولاّعتها وقالت «لا بأس. سأرتاح من رائحة فمك الكريهة في

الصباح». واستدارت ومشت خطوتين وتابعت: «حقيبتي

معدّة. وما أسمعه منك اليوم توقعته منذ أيام. ولكن لا تنس

أنها كانت خمس سنوات وثلاثة أشهر….»

وقاطعها: «وستة أيام أيضًا!»

فقالت: «وتحسب الأيام الأخيرة؟ كنت أتوقع منك أن تحصي

الأيام الجميلة التي عشناها معًا.»

فرد سالم بلا مبالاة: «لا تبالغي.»

وحملت حقيبتها وخرجت بدون كلمة وداع وأما هو فتابع

تدخين سجائره بكسل!!

ارتدى سالم النجّار معطفه الرمادي وخرج الى الشارع فلسعه

النسيم البارد في عنقه وأذنيه فسحب راحتيه من جيبي

المعطف ورفع الياقة ليغطي رقبته الطويلة مثل عنق الديك

الرومي.. وسار.

كانت الغيوم الرمادية في عراك مع الشمس وكلما حاولت أن

تغشاها تفشل وتتبدد. وكانت أوراق الشجر المشمشية اللون

تتراقص على الاسفلت.

دخل مقهى «كان زمان» فوجد فيه بعض الزبائن مشغولين

بلعب الورق. اختار طاولة صغيرة في الزاوية وجلس. شاهده

النادل الفتى فجاء إليه مبتسمًا: «ماذا يطلب الأستاذ؟». فرد

بفتور: «فنجان شاي». حدّق النادل في ذقن سالم غير الحليقة

منذ أيام وشعره المنفوش وسأله مستغربًا: «شاي؟!!»، وكأنه

يقول: «الأستاذ مريض من غير شرّ؟!!». فرد بلا مبالاة «شاي.

وناولني جريدة المساء!».

صرخ الفتى النادل: «واحد شاي مع نعنع!» ومشى خطوات

وعاد يحمل الجريدة وناولها لسالم. ولم يعترض على النعنع.

قرأ عناوين الأخبار في الصفحة الأولى وتمتم «لا تختلف عن

أخبار السنة الماضية»، وتسللت الى محياه ابتسامة صغيرة

وهو يقول: «القرن الماضي»، ثم غابت.

قلّب الصفحات وهو يرتشف الشاي بين حين وآخر من كأس

الشاي الساخن. توقف عند الأخبار المحلية. سرقة مصرف.

19 جريحًا في شجار عائلي على شبر أرض. شاب يقتل أخته

بالرصاص حفاظًا على شرف العائلة. مجاعة في القرن

الإفريقي. مليونير يشتري سروال مادونا الداخلي بعشرة

آلاف دولار.

شاهد إعلانًا للشرطة في الصفحة الخامسة بعنوان «الشرطة

تطلب مساعدة الجمهور»، وقرأ الإعلان: «عثرت مفرزة من

الشرطة على جثة رجل مجهول في العقد الخامس من عمره

في الغابة الغربية. من يعرف شيئًا عن صاحب الصورة

المنشورة مع الإعلان يتوجه الى مركز شرطة البلدة القديمة

أو إلى أقرب مركز شرطة لمكان سكناه!».

نظر سالم الى الصورة الرمادية للجثة فوجدها مشوّهة غير

واضحة، فالموت والزمن أزالا الأنف وأخفيا جزء كبيرًا من

الوجه.

أطال التحديق في الصورة وكان شيئًا شدّه اليها أو الى صاحبها.

نسي كأس الشاي الذي لم يشرب سوى رشفات قليلة منه.

مدّ يده الى جيبه وأخرج قطعة معدنية من النقود ووضعها

على الطاولة ونهض ومشى ونظرات النادل الفتى تودعه

باستغراب.

وصل سالم الى مركز شرطة البلدة القديمة فتوجه الى

الشرطي المناوب.

– عندي معلومات عن الجثة.

– أية جثة تعني؟

– الصورة المنشورة في صحيفة المساء.

– آ، فهمت. الملف عند المحقق يوسف. الغرفة رقم 5 على

اليمين.

قرع سالم باب الغرفة رقم 5 ودخل.

– مساء الخير حضرة المحقق.

وجلس بدون أن يأذن له.

نظر اليه المحقق نظرة مهينة من رأسه الى أخمص قدميه

وقال بعجرفة: نعم!!

– عندي معلومات.

قالها وهو ينظر الى النجمة النحاسية التي على كتف المحقق.

– معلومات؟ بخصوص..؟!!

– الجثة التي في جريدة المساء.

افترّ ثغر المحقق عن ابتسامة حامت على شاربيه الصغيرين

وقال: أهلاً!.

تناول المحقق يوسف ملفًا من الخزانة الحديدية الصغيرة

ووضعه على طاولته وفتحه وقلب عدة صفحات. لاحظ سالم

أن بعض الصفحات تحمل صورة الجثة.

– ما اسمك يا أخ؟

سأل المحقق.

– سالم النجار، بطاقة رقم 987654321.

– عنوانك؟

– حي البرج 13 / 7.

– رقم الهاتف؟

– 8865631.

– هل تعرف صاحب الجثة؟

– نعم.

– ما اسمه؟

– إسمه.

– طبعًا اسمه.

– يزيد. يزيد الصالح.

– هل هو من عائلة الصالح؟

– لا أدري. قد يكون «الصالح» اسم والده او اسم جده أو اسم

عائلته.

– ماذا تعني؟

– كنّا نعرفه باسم يزيد الصالح. على الأرجح «الصالح» اسم

عائلته.

– من أين هو؟

– من هذي المدينة.

– عنوانه؟

– لا أعرفه.

– رقم تلفونه؟

– لا أعرف.

– متى شاهدته آخر مرة؟

– آخر مرة؟

– أيوه. آخر مرة؟

– قبل ستة أعوام. الصحيح.. قبل خمسة أعوام وبضعة أشهر.

– أين؟

– في حانة أبي نواس.

– ماذا كان يشرب؟

– ما يشربه الناس في الحانات.

– وطبعًا تبادلتما الحديث.

– عندما شاهدني نهض عن كرسيه وهو يحمل كأسه بيده

واقترب مني ضاحكا وقال «أهلاً سالم!» وتعانقنا.

استمر التحقيق خمسين دقيقة. خرج سالم من غرفة المحقق

بعد أن قال له «تستطيع أن تنصرف. إذا احتجنا اليك فسوف

ندعوك!».

شعر سالم أنه عمل شيئًا. أنجز أمرًا. ومشى. وكان يرسم

في خياله صورة ليزيد الصالح. الشعر أسود. الطول فارع.

النظرات حادة الأصابع نحيلة. آثار النيكوتين على السبابة

والوسطى.

وفي طريقه مرّ على حانة أبي نواس فوجدها شبه خالية.

شرب كأسين من العرق الرخيص بسرعة وعاد الى بيته.

دخل شقته الصغيرة في حي البرج وارتمى على سريره

الخشبي القديم وأشعل سيجارة. حدّق في سقف الغرفة

فشاهد بقعة رطبة.. ورأى يزيد الصالح في داخلها.. ودار

بينهما حوار طويل امتد الى منتصف الليل.

بعد ثلاثة أيام استدعاه المحقق يوسف وسأله: هل أنت

متأكد من أن اسمه يزيد الصالح؟

– طبعًا حضرة المحقق.

– جلست ساعات مع نائب المدير العام في وزارة الداخلية.

واطلعنا المسؤول على قائمة أسماء عائلة الصالح في المدينة.

لم نجد رجلاً أو طفلاً أو عجوزًا يحمل اسم يزيد. وزيادة على

ذلك قال لي الموظف المذكور أن عائلة الصالح عائلة شيعية

ولا يعقل أن يحمل أحدها اسم يزيد.

ردّ سالم النجار بهدوء: يبدو ان الصالح اسم والده.

– متى بدأت معرفتك به؟

– عندما كنا طلابًا في المرحلة الثانوية. وأضاف: كان يزيد

طالبًا ذكيًا. ويحب دروس التاريخ والأدب ويكثر من النقاش

والتحليل. وكان يحفظ معلقة امرئ القيس عن ظهر قلب.

والغريب يا سيدي انه كان يستطيع أن يلقيها أمام الجمهور

من النهاية الى البداية. كان المرحوم دودة كتب.

– في أي سنة كنتما معًا في المدرسة؟

– السنة؟ صحيح. أنهينا الدراسة في العام 1970 ولم أشاهده

بعدئذ إلا مرة واحدة.

– في حانة أبي نواس.

– نعم.

– في أي مدرسة كنتما؟

– مدرسة حطين.

– حسنًا. لا بد أن اسمه واسم عائلته وعنوانه مدونون في

ملفات المدرسة.

– غادر سالم غرفة التحقيق وسار في شوارع المدينة على غير

هدى.

وفي صباح اليوم التالي توجه المحقق الى مدرسة حطين

الثانوية واجتمع مع مدير المدرسة وطلب الذين تخرجوا في

العام 1970.

قال مدير المدرسة الشاب للمحقق انه مدير لهذه المدرسة

منذ خمس سنوات فقط. ومدرسته مدرسة حديثة أقيمت

بعد تصدع بناية المدرسة السابقة إثر غارة جوية مما اضطر

السلطات الى هدمها محافظة على سلامة الطلاب.. أبناء

الجيل الجديد.. وأن ملفات المعلمين والطلاب التي في

أرشيف المدرسة تعود الى عشر سنوات فقط لا غير هي عمر

هذه البناية.

وبعد تشاور بين المحقق وبين المدير الشاب قرر المحقق أن

يتوجه الى دائرة المعارف ليبحث عن ملفات الطلاب.

اتصل المحقق مع مدير اللواء في وزارة التربية والتعليم

فحوّله الى نائبه ولما تحدث مع النائب حوّله الى مدير قسم

الأرشيف فحوله بدوره الى مسؤول قسم ملفات الطلاب

فزاد تفاؤل المحقق وبعد حديث قصير مع مسؤول القسم

فهم منه أن مدرسة حطين التاريخية التي تعلمت بها أجيال

كثيرة قد هدمت قبل عشرة سنوات بأمر من الوزير وأخبره أن

قسم الأرشيف قد أباد الحضور والغياب والعلامات والأحوال

الشخصية للطلاب والمعلمين لأنه لا مكان في دائرته

لحفظها..

استدعى المحقق سالم النجار وسأله:

هل كانت هناك علامات فارقة في جسد يزيد الصالح؟

فردّ بهدوء: ماذا تعني؟

– علامة ما بارزة في وجهه.. في عنقه.. شامة على جسده.

– لم تكن هناك بركة سباحة في المدرسة.

رد سالم بكسل.

– هل كانت له علاقات غريبة؟

– كان هناك همس بين الطلاب.

– حول ماذا؟

– كانوا يقولون همسًا أن يزيد الصالح من المعجبين بتشي

جيفارا.

– وماذا أيضًا؟

– وكانوا يهمسون انه يسهر كثيرًا خارج البيت.

– أين؟

– لا أعرف.

– مع من؟

– كانوا يهمسون أنه يسهر مع أناس يتحدثون كثيرًا. ولهم آراء

غريبة.

ونظر سالم في عيني المحقق وأضاف: «قد تكون مستوردة».

– مستوردة؟

– نعم. بلادنا تستورد معظم المنتوجات الصناعية من أوروبا

واليابان وكوريا.

– يعني.. تشك في الصناعة الوطنية ولا تشتريها!!

– أنا؟!

– طبعًا؟ أنت!

– لا يا حضرة المحقق فأنا لا أملك نقودًا للصناعة الخارجية.

– لا يكفي انك لا تملك نقودًا بل تشك في مقدرة البلاد

الصناعية..

– المجد كل المجد للصناعة الوطنية.

– ويزيد الصالح؟

– ما له؟

– كان صديقك.

– أبدًا.

وضغط المحقق يوسف على زر في الطاولة فدخل ثلاثة

شرطيين يحمل أحدهم قيودًا حديدية.

وعندما كانوا يضعون القيود في يدي سالم النجار. قال: مهلاً

حضرة المحقق. والله لا أعرفه. ولم أره.

قال المحقق بغضب: سوف تعترف بالحقيقة.

– أية حقيقة يا سيدي؟

– انك قاتل.

– يزيد الصالح وهم يا سيدي. خلقه خيالي المريض.

– أنت الذي قتلته.

– كيف أقتل وهمًا.. سرابًا.

– عندنا شريك يثبت ذلك.

– يثبت خيبتي.

– القاتل دائمًا إنسان خائب.. فاشل.

– لا أعرف أحدًا اسمه يزيد الصالح.. صدقني..

– وجرّه الشرطيون إلى الزنزانة!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *