حدثت وقائع هذه القصة يوم الخميس 5 شباط 2004 ميلادية في قراوة بني تميم وهي قرية صغيرة تقع في شعب جبل في الجهة الغربية الجنوبية لمدينة نابلس. وأرجوكم ألا تجهدوا أنفسكم في البحث عنها في الأطالس المحفوظة في مكاتبكم وخزائنكم من أيام الدراسة في القرية أو المدينة، أو في خرائط فلسطين الانتدابية المعلقة في مكاتبكم أو على جدران بيوتكم للذكرى فلن تجدوها ولو استغثتم بسراج وفتيلة، وشموع وعدسات، فقراوة بني تميم نائمة في حجر جبل لم تتغير معالمه، ولم يغير زيّه منذ هبوط سيدنا آدم على الأرض برفقة شريكة عمره وحبيبة قلبه جدتنا حواء.
أسس هذه القراوة رجل عصامي من ذرية تميم الداري. هجر المدينة مبتعدًا عن ظلم الوالي التركي، معتصمًا بالجبل.ويقولون إنه صادق الذئاب والضباع والنمور وعاش معها، لم تؤذه ولم يؤذها في حين أصاب رصاص بندقيته رأس كل عسكري خوّلت له نفسه الاقتراب من عرينه. وهذا ما أفاد القراوة وأهلها فيما بعد ووضع معاهدة غير مكتوبة بينها وبين الحكام فبقيت وادعة ناعسة في زمن سلاطين آل عثمان وملوك الإنكليز وملوك بني هاشم لا يعكر صفوها مُعَشر أو تحصيل دار. زيتونها وتينها وكرومها وخرّوبها لأهلها الذين هم أبناء عمومة.تميميّون داريّون. في وجوههم شقرة خفيفة وفي عيونهم لون الزيتون وفي شفاههم لون أثلام الحقل المحروث حديثًا. معتزون بأصلهم وفصلهم، فإذا حدث ونزل الواحد منهم الى المدينة وسأله متطفل «من وين الأخ بلا زغرة؟» ردّ بأباء «من القراوة». وإذا تلطف قال: «من قراوة بني تميم». يلفظها وكأنه يقول من القدس الشريف أو من بغداد أو الشام أو مكة المكرمة.
ولكن، كما جاء في القصص وحدّث الرواة فإن دوام الحال من المحال.
في ذلك النهار كانت شمس شباط دافئة وأهل القراوة مثل فلاحي بلادنا يقولون «شباط، إن شبط وان لبط ريحة الصيف فيه». فخرج الناس من بيوتهم يتنعمون بالشمس بعد أيام ماطرة وباردة وغائمة. الأولاد يلعبون على سفوح الهضاب وفي الوادي، يقفزون وراء العصافير والفراشات ويقطفون شقائق النعمان وعصا الراعي، والنساء حملن لجان العجين أو لجان الغسيل وقعدن على طراريح أو طبليات أمام البيوت كاشفات عن سيقانهن البيض الممعوطة من الشعر وما زالت آثار العقيدة على بعضها، يغسلن الملابس ويتفاخرن بما أصاب الواحدة منهن في الليل بإظهار رذاذ الماء على شعورهن أو يعجن طحين القمح النورسي مطمئنات بأن لا أحد يتلصص عليهن فالرجال قد غادروا البيوت والحارات والشوارع الى بيادر القرية المطلة على الوادي يدخنون التبغ البلدي ويتناقشون حول صدام حسين وجورج بوش ومعمر القذافي.
ويصر مسعود العلي أن صدام حسين ما زال حرًا ويقاتل في الفالوجة وان الشخص المعتقل شبيه به. وما قتلوه وما اعتقلوه وما سجنوه ولكن شبه لهم. ويقسم الرجل بشاربيه أنه سمع بأذنيه الاثنتين في أثناء زيارته لعمان قبل أيام أن شيخًا فلسطينيًا من مخيم الوحدات اصطحب زوجته لزيارة وتفقد حال ابنته المتزوجة في بغداد ليطمئن عليها وعلى زوجها واولادهما في هذه الظروف الدامية والحرب القاسية، وحينما وصلا الى بغداد وترجلا من سيارة الأجرة وسارا في الشارع لاحظا أن فلاحًا عراقيًا يمتطي حمارًا يسير وراءهما حيثما سارا فلعب الفأر في عب الشيخ فالأوضاع ليست أمانًا فهمس لزوجته إن الرجل ينوي شرًا وربما سيحاول سلبهما. وتابعا سيرهما بحذر وقلق. ولاحظ الفلاح العراقي ذلك فنادى «يا شيخ.. يا شيخ! قف!» فوقف الشيخ يتوجس خيفة ويده على قلبه واقترب الفلاح العراقي منه وقال «لا تخف! سر بأمان! أنا أحرسك من اللصوص». ثم ابتسم وأضاف «أنا أبو عدي صدام!»
وضحك أحد الرجال ولعله مصطفى وسأله بسخرية جارحة: «وهل كان يركب حماره بالمقلوب؟» فرد عليه: انت أمريكاني!! وعلا ضحك الرجال ولم يعلقوا على كلام عبد الرحيم الذي قال مدافعًا ومجاملاً: شو فيها؟ كل شيء في هذا العالم تأمرك من الحمار حتى الرئيس.. ألم تروا أن العقيد لبس قبعه ولحق بربعه!! ومن وسط الضحك الذي طال وعلا وخفت وارتفع انتبه أحد الرجال الى أصوات يتردد صداها في الوادي فقال بصوت مسموع «هس. سمع!» وأشار بسبابته الى جهة مصدر الصوت.
كانت مجموعة الأولاد تسير في الوادي متجهة الى القراوة وتهتف وتصرخ بأصوات عالية غير واضحة ولكن المتمعن فيها يجد حدة وغضبًا. حاول الرجال التقاط الأصوات بآذانهم المنتصبة وفك رموزها. وعلت الحيرة على وجوه البعض، والتساؤل على وجوه الآخرين. هل هي لعبة من لعب الصبيان العادية؟ المثل يقول «خذ أسرارهم من صغارهم!» والأولاد يلعبون ببراءة أو بخبث ما يفعله الكبار في الحياة. يلعبون لعبة «بيت وبيت» أو «عريس وعروس» أو «طبيب وممرضة» أو لعبة الحراث أو لعبة الراعي ويقلدون آباءهم وامهاتهم، ومنذ سنوات صاروا يلعبون «عسكر وفدائية» وهي لعبة تحتاج الى شجاعة ومخاطرة ويتخللها عنف ورجم حجارة وشتائم مفهومة وشتائم غير مفهومة مما دعا بعض الآباء الى محاولة منع أبنائهم من المشاركة فيها. وأما في السنوات الأخيرة ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى فقد برزت لعبة جديدة، لعبة حزينة مأساوية فيها إرادة وتصميم على الاستمرارية فقد جمع أولاد القراوة أخشابًا ومسامير وجلب أحدهم شاكوشًا وعملوا نعشًا. نعشًا يشبه التابوت ثم صاروا يحملونه ويذهبون الى البيادر ويلعبون لعبة «مقاومة واحتلال»، وتدور معركة بين الطرفين، رجم حجارة، صراخ ،شتائم، إطلاق رصاص من مسدسات أطفال ثم يضعون وسادة في التابوت ويغطون الوسادة بشرشف أو حرام ويضعون فوقه علمًا فلسطينيًا ويحمل أربعة أولاد النعش وتسير الجنازة ويسير وراءها المشيعون يهتفون هتافات وطنية حتى يصلوا الى مقبرة القراوة ويصلون على الشهيد.
ويبدو أن الأولاد في ذلك النهار الشتائي الدافئ كما بدا لرجال القراوة كانوا يلعبون اللعبة ذاتها ويهتفون الهتاف نفسه ولكن بعض الرجال لاحظ ان أصوات الهتاف حادة على غير العادة وغاضبة جدًا وأن كلمات جديدة مثل «إوع يا ولد! على مهلك! إياك أن يسقط!» كانت تتخلل الهتاف التقليدي: «لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله» أو «يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا حنكمل الكفاح» أو «يا ام الشهيد زغردي! كل الشباب أولادك!». وكانت الجنازة تتحرك ببطء على عكس المرات السابقة حيث كان الأولاد يهرولون كما هو متبع في جنازات المسلمين أو كما تقضي السنة.
وقال عبد الرحيم: غريبة!
فرد مصطفى وهو شاب نزق يتهمونه بأنه من «جماعة خالف تعرف»: وما الغرابة؟ قالها بصوت ذكر الجميع بمقطع مسرحي من مسرحيات عادل إمام المشهورة.
ولم يضحك أحد. ولم يغضب عبد الرحيم بل أضاف: الأولاد يسيرون ببطء وتثاقل والنعش ثقيل.
فسأله مسعود: يسيرون ببطء رأينا بأعيننا وفهمنا لكن كيف عرفت أن النعش ثقيل؟ هذه زيادة يا عبدو.
فرد عبد الرحيم: ألا ترى ان جذوع الأولاد محنية تحت النعش ولا يحمله إلا الكبار منهم؟ لو كان الشهيد وسادة كالعادة لساروا منتصبين ومسرعين مهرولين.
فعلق مصطفى: الدنيا آخر وقت، صارت الشهادة لعبة وصار عبد الرحيم ذا فراسة.
وأعجب البعض بالتعبير «ذا فراسة» فمصطفى يتعمد أن يتكلم الفصحى ويثير اهتمام سامعيه باستعماله للأسماء الخمسة في حالات الإعراب المتنوعة فمصطفى يقول «أبو وأبا وأبي» ويصر على أن استعمالها يحتاج الى علم فكيف إذا أضاف الى ذلك كلمة «فراسة»؟ واستعمال مصطفى للأسماء الخمسة في حالات الإعراب المختلفة دعت أحد الرجال أن يسأل الشيخ محيي الدين إمام القراوة عن ذلك فتنحنح الشيخ وتعوذل وبسمل وقال «أبو كلمة عامية، وأبا كلمة فصحى وأما كلمة أبي فما أنزل الله تعالى بها من سلطان!». واشتدّت مراقبة الرجال للأولاد ولاحظوا أن الذين يحملون النعش مجموعة كبيرة كما أن أصواتهم حادة جدًا جدًا وفيها نغم مأساوي.
وحينما اقتربت الجنازة من الرجال تأكدوا أن هناك سرًا بل حدثًا ما فتحرك أحدهم لملاقاتها وتبعه الآخرون.كان العرق يتصبب على وجوه الأولاد المتعبة وفي أصوات بعضهم بحة. وأما العيون فكانت تقول الكثير.
امرهم عبد الرحيم: ضعوا النعش على الأرض.!!
فعارضه بعضهم وقال صبحي المشهور بالمقلاع لكثرة ما أصاب بمقلاعه سيارات الجنود وسيارات المستوطنين:
الشهيد شهيدنا ولا دخل لأحد بنا!
فرد عبد الرحيم: صحيح، الشهيد شهيدنا ولكننا نريد أن نتعرف إليه.
وسأل مصطفى: هل هو من القراوة؟ فعلق مسعود: البوم لا ينعق إلا في الخراب.
فرد مصطفى بغضب: وهل هذا خراب يا جبان؟ نهرهما عبد الرحيم: وحدوا الله يا رجال!
وعلت أصوات الرجال: لا إله إلا الله.
ورد الأولاد: والشهيد حبيب الله.
وتحرك حاملو النعش.
– قف إنت وهو!.
– حطوا النعش على الأرض!
ويبدو أن الأولاد كانوا متعبين ويبحثون عن لحظة راحة فأنزلوا النعش عن أكتافهم وتحلقوا حوله يحدقون به. تقدم عبد الرحيم من النعش ورفع الشرشف عن الجثمان وحدق في وجه الشهيد ثم استدار الى الرجال وقال: الشهيد شهيدنا. ولكنه ليس من القراوة. وتدافع الرجال ليشاهدوا وجه الشهيد.
– يا سبحان الله كأنه نائم!
– الايمان يشع من وجهه.
وسأل عبد الرحيم الأولاد: أين أصابته؟ فرد المقلاع: في الصدر.
ورفع الشرشف كاشفًا عن الجثمان فظهرت بقعة دم كبيرة على قميص الشهيد.
ثم عاد وغطى الجثمان. وسأل صبحي: هل وجدتم بجواره شيئًا. بندقية. مسدسًا؟ فأجاب المقلاع: لا.
وارتفع صوت من بين الرجال: كرامة الميت دفنه.
فانحنت أجساد الرجال وامتدت الأيدي والسواعد الى النعش.
فقال عبد الرحيم: تحلوا بالصبر. كرامة الميت دفنه صحيح، لكن للميت أهلا وكل إنسان عزيز على أهله فكيف إذا كان شهيدًا وشابًا؟!
وسأله مصطفى: وماذا تعني يا عبد الرحيم؟
فكر عبد الرحيم قليلاً ثم أجاب: إللي ما إلو كبير… ما إلو تدبير.
إحملوا النعش الى ساحة القراوة وهناك نشاور اللجنة.
اعترض مسعود: أنت واحد منهم.
فرد عليه بحدة: أيوه يا خويا، بس الراي للجماعة!
ومد يده الى النعش فامتدت السواعد وحملوه وساروا وهم يهللون «لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله».
غصت مضافة القراوة بالرجال الذين تحلقوا حول النعش والذين كانوا يتدافعون ليروا جثمان الشهيد.
قال أبو عدي رئيس لجنة القراوة: كرامة الميت دفنه. هكذا يأمر الدين وتقضي العادات، ولكننا أمام حالة خاصة، أمام شهيد وليس من القراوة.
وأضاف عبد الرحيم: لا بد من أنه من بلدة مجاورة.
وقال مصطفى: أو من نابلس.
وقال الإمام: الله أعلم. ولكنه ابن البلد ابن الوطن.
صمت الناس لحظات حتى قال رئيس اللجنة: أقترح أن يذهب بعض الشبان الى القرى المجاورة.. والى نابلس.. يتحرون الخبر من مفقود؟ من استشهد؟ ويعودون قبل المساء.
وأضاف عبد الرحيم: وأقترح ان نستمع الى نشرات الأخبار فقد تساعدنا بالتعرف على الشهيد.
وانطلقت مجموعة من الشبان الى القرى المجاورة والى مدينة نابلس يتحرّون ويتشمّمون الاخبار.
وقال رئيس اللجنة: دعوا الشهيد في المضافة. واتركوا المكان للنساء حتى يقمن بالواجب.
غادر الرجال المضافة وبدأت نساء القراوة يتوافدن الى المضافة ويتحلقن حول جثمان الشهيد.
-أقعدن على الأرض يا بنات تميم فالشهيد في مضافتنا. خرج صوت الأرملة صبحية.
وجلست النسوة متحلقات حول الجثمان.
مدت زليخة الشايب رأسها وحدقت في وجه الشهيد وقالت:
شاب مثل عود الحبق.
وأضافت وطفا العبد: النور – ما شاء الله – يشع من وجهه.
وعادت الأرملة صبحية تقول: الضيف ضيف القراوة. ضيفنا ويجب أن نقوم بواجبه.
وانطلق صوت أم عباس ندابة القراوة يندب ويعدد. وبدأت التميميات يرددن وراءها.وانهمرت الدموع.
نهضت فاطمة السعد وخرجت من المأتم فأثارت اهتمام النسوة.. ولكن لم تعترضها إحداهن سوى نظرة ازدراء من جارتها عفيفة التي تشاجرت معها في الصباح بسبب مياه الصرف التي تسكبها في الزقاق. وعندما أخذت الندابة ام عباس تخاطب أم الشهيد وتشاطرها الحزن والبكاء علا نواح صبحية التي تذكرت زوجها واشتد بكاء أم راجي التي زاد حنينها وشوقها لابنها السجين.
واستمر الندب والتعداد.
– افتحوا الطريق يا بنات الأصايل.
واشرأبت رؤوس النسوة فشاهدن فاطمة السعد عائدة وتدخل المضافة متجهة الى النعش.
– الشهيد شاب.. والشهيد حبيب الله والشاب حبيب الله! هذا عريس، أجمل عريس في الدنيا. عريس يزف الى حوريات الجنة فيجب أن نُحنّي كفه!
ومدت راحتها التي تحمل صحن حناء.
أجابتها الأرملة صبحية: خيرًا فعلت يا فاطمة.
ومدت يدها ورفعت الشرشف واخرجت ذراع الشهيد اليمنى.
اقتربت فاطمة وتحسست يد الشهيد.
– لا خاتم! ولا محبس.
وبدأت تغرف الحناء بأصابعها وتمررها على كف الشهيد وأصابعه.
وانطلق صوت الأرملة صبحية يغني: مد إيدو يحنّولو.
وغنت الندابة أم عباس: مد إيدو يحنّولو.
– ذراعه حنطي.
– مفتول مثل فرع الزيتونة الشابة.
– مثل ساعد القاعود.
– أصابعه غليظة.
– شوفي.. كيف فاطمة بتحنّي أصابعه! بلطافة! تتحسسها كأنه حي يرزق!
– الناس بشيء وانت بشيء
– نيال الحورية اللي رايح يكون من نصيبها.
وارتفع صوت عند باب المضافة: إفتحوا الطريق يا بنات الكرام.
واتجهت الرؤوس والعيون تحدق في زهرة التي قالت: لا يصح أن نزف العريس ولا نعطره.
وفتحت زهرة زجاجة عطر وبدأت ترش العطر على رأس الشهيد وعلى جسده.
وصفقت الأيدي وارتفعت في الفضاء وعلا صوت الغناء.
وغنت الأرملة صبحية: إحلق يا حلاق بالموس الذهبية!
إحلق يا حلاق ونادي ع إمو!
ورددت النسوة الغناء والدموع تنسكب.
وغنت فاطمة:
ونادوا أولاد عمو يجولو بالطبول وبالزمور يرقصولو
وهمست زليخة لجارتها عليا المحمود: لو جاء أهله فلن نسمح لهم بأخذه! هذا الشهيد لنا.هذا العريس لنا. للقراوة.
أجابتها عليا بهدوء: المقبرة للقراوة. لموتى العائلة. لم يدفن فيها غريب.
– وهل الشهيد غريب يا عليا المحمود؟
ومع المساء عاد الشبان الى البلدة متعبين مرهقين وشهدوا أنهم استقصوا الاخبار في القرى المجاورة ولم يسمعوا خبرًا ولم يعرفوا أمرًا ثم عاد شابان من نابلس وقالا إن المدينة محاصرة ومفروض عليها منع للتجوال.
قال الإمام: إكرام الميت دفنه. احفروا له بيتًا.
وسأل شاب: بجوار من؟
وخيم الصمت على وجوه الحاضرين، فالناس يقبرون موتاهم بجوار الجد أو الأب أو العم أو الخال. فأين سيكون قبر الشهيد؟ وحسم عبد الرحيم الامر حينما قال: بجوار قبر أبي.
وأسرع الشبان الى بيوتهم وحملوا المعاول والقفف واتجهوا الى المقبرة.
وسأل شاب: وماذا مع تجهيز الشهيد؟ فرد الإمام: الشهيد لا يغسل ولا يكفن.
وبعد الغروب سارت جنازة مهيبة الى المقبرة. الكبار يهللون ويسبّحون. والشبان يهزجون.والنساء تصفق وتغني وتزغرد.
وما أن انتهوا من دفن جثمان الشهيد حتى تغير الطقس وغشت غمامة السماء، وهبت ريح باردة، وبدأ المطر يتساقط.. يتساقط.. يتساقط وينهمر…