إلياس خوري… كأنّه نائم

“هي اللغة إذن، التي مارس خوري تفكيكا وحفرا في جوهرها، مفهوما ووظيفة ومعنى؛ وهو الأدب الذي حاور خوري الحقيقة والحقّ من خلال بصيرته، هكذا فقط يمكن أن نفهم ما قاله لنا على لسان شخوصه «النصّ الأدبيّ بيتكم»”، عايدة فحماوي-وتد في رثاء الأديب الياس خوري.

كيف نكتب عن الجبال دون أن نتسلّقها ونرى ما كانت تشهد عليه؟ كيف نكتب عن اللغة دون أن نشتبك معها وفيها؟ كيف نرثي إلياس خوري دون أن ندرك عمق جملته «الرثاء هو إعلان حقّنا في الإرث»؟
«أليست الكتابة احتفاء بالعمر الذي ضاع ورثاء له؟» جعلتني هذه الجملة من أولاد الغيتو أعود إلى كلماته العطشى أتتبّعها لأرتوي: «وحدها المراثي تثير الشجن، وتشعل الخيال وتلقي قبسا على عتمة الروح»؛ هي اللغة إذن، التي مارس خوري تفكيكا وحفرا في جوهرها، مفهوما ووظيفة ومعنى؛ وهو الأدب الذي حاور خوري الحقيقة والحقّ من خلال بصيرته، هكذا فقط يمكن أن نفهم ما قاله لنا على لسان شخوصه «النصّ الأدبيّ بيتكم»؛ إلياس خوري وهو يمتحن علاقات اللغة مقابل الصمت، كان أيضا يمتحنها مقابل اللغو، وحين جرّب مقدرة الأدب على الوقوف أمام المحو، محو الهويّة، محو اللغة، ومحو التاريخ والذاكرة كان يؤكد أنّ «دارس الأدب هو من يصير الأدب ذاكرته».
ليس غريبا إذن أن ينحاز إلياس خوري لفلسطين «فالأدب سجلّ الخائفين والمسحوقين والمهمّشين» لأنّهم يستحقّون نور الكلام، وشجاعة اللغة، «فاللغة تضيء الروح» على هذا النحو أحبّ الكاتب الكلمة، كمثقّف مشتبك يتجاوز الكتابة الجماليّة – دون أن يتخلّى عنها- نحو الكتابة المعادِلة للأخلاق في بحثها عن الحقيقة وإثبات الحق؛ لم يملّ النبش عن حكايات غير معادة، تسمو على التاريخ بصفته سجلّا للمنتصرين والأبطال، وتنزاح عن الرواية بصفتها جنسا أدبيا في حدود التعريف. لم يستحضر الأرشيف الشعبيّ ويقلب المعادلة فقط، بل فاضت لغته بصمت «الحاضرين الغائبين» بنى بالكلمات شخوصا من لحم ودم، تتحرّك على مسار السرد، وتحكي حكايات العطش و«خرائط الألم» وأقنعة البقاء، التي تراكمت أمامه هو – شهرزاد النكبة.. لكن النبش في الجرح يُتعب القلب المحبّ، وحين تضيق المفردات عن رواية فيض الحكايات تعطش القلوب أكثر. كيف استطاع خوري أن يكتب كلّ هذه الحكايات؟ لم تكن براعته في أن يكتب فقط، بل في أن يصغي، لم تكن الكتابة المضنية التي ذوّبت أعصابه وجسده إلا ترجمة عميقة لذلك الإصغاء، كنتَ تسمع وأنت تتحدّث معه صوت إصغائه للكلمات التي قلتها للتو، أو تلك التي لن تقولها أبدا. كان صوته بيتا يشعرك بأنّ العالم حيّ ينبض في زمن الموت، وأنّ الإصغاء قصيدة أخرى على حافة الصمت.
هكذا خطّ إلياس خوري الكاتب الكبير والمثقّف الأخلاقيّ وشمه المائز فوق أدبيّات النكبة، هكذا استطاعت روايته «باب الشمس» أن تتحوّل من ورق الكتابة إلى مخيم على أرض الواقع، بعد أن كانت حكاية صامتة كساها بالكلام، ومن خلال مروره عبر المسارات التاريخيّة والحوارات المتخيّلة والحقيقيّة في أولاد الغيتو أثّث مساحات جماليّة لتفنيد الأفكار الصمّاء وتعريتها باللغة، «فالحقيقة لا تصنع فنّا، ولكنّ الفنّ أيضا لا يصنع حقيقة. يجب أن يكون الفنّ توأم الحقيقة. وعندما تجتمع الحقيقة بالفنّ نصل إلى التعبير عن تجربتنا الإنسانيّة» هذه هي كلماته…
لقد أحبّنا إلياس خوري، ندرك هذا عميقا، لعلّه أحبّ الفلسطينيّين أكثر من فلسطين الأرض والجبل والبحر والشجر، وهو ما يميّزه، وأحبّ فلسطين الاستعارة ورسمها معنا، تماما كما أحبّنا، ونحن أحببنا فلسطين معه أكثر، أحببنا فلسطين الأرض والجبل والبحر والشجر، هذا الحبّ هو الحبل السريّ بينه وبيننا، الذي يفوق اللغة ويتفوّق عليها، إنّه لغة أخرى تعلمناها معه، لغة الأمل.. الأمل كان وصيّته التي لم يقلها أبدا، حتّى في الأيّام التي تهتزّ فيها الجبال من حولنا نحن متمسّكون بالأمل الذي دُرِّبنا عليه. لا تفاؤلا، بل لأنّ الموت لا يمكنه أن يكون خاتمة الأشياء.
إلياس خوري لم يمت حقّا، إنّه نائم فقط، تماما مثل ميليا، بطلة روايته الحالمة، التي رأت الحقيقة ولم يتوقّف المنام «فعرفت أنّها ماتت» إنّه يحيا في الصمت الآن، «يستحم بالكلمات» كما كان يقول، «يكتب النصّ الذي كان يريده دوما، النصّ المتخفّف من المعنى، كالموسيقى، يأتي من إيقاعات الروح التي فيه» سيستفيق يوما على حريّة تحكي…، «من يرثي هو الذي يرث، هذه هي المعادلة التي اجترحتها لغة العرب عندما جعلت من كلمتي الرثاء والإرث متداخلتي الحروف بحيث لا تنهض كلمة منهما من دون الأخرى». هذه هي كلماته، هذا هو سؤال الحريّة الذي ينتظرنا- نحن الذين بقينا: كيف نرثيه لنرثه؟ لنرث حريّة تحكي؟

 

*نشر النص في صحيفة “القدس العربي” بيوم 7/10/2024.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *