ترجمة: راجي بطحيش
الأسم
“باروسكي؟” لا، لا، أعتذر، أسمي نينا لكني لا أفهم الروسية. “كيف لا تفهمين وأسمك نينا؟” هذا الاسم ليس من الروسية بل من المغرب، أهمس، تبرم الموظفة بوزها وتتوجه فورا لمكالمة هاتفية، وأنا انتظر جانبًا. لماذا نينا؟ يسالني أصدقائي، لان هذا كان أسم جدتي، ماما – نينا، ببساطة شديدة، اشرح لهم.
“نينا لا مورينا”، أي نينا السمراء، سمّوني في عائلتي، وابنة عمّتي “نينا لا روبيا”، أي نينا الشقراء بالشعر الذهبي، هي نينا الطاهرة، الساذجة والرحومة. وأنا نينا المخلة بالنظام، حيث يجدر الحذر من لساني.
لماذا نينا؟ أسأل، أتوسل لوالدَي. لأن ذلك ما هو متبع لدينا mi reina، ملكتي. ماذا، نينا ليس أسمًا جميلًا؟ لست متأكدة، أداعب رأس أمي. نون ياء نون ألف. لماذا ليس أسمًا بسيطًا مثل ياعيل أو عنات أو ميخال؟ أو حتى روت أو فيرد أو جاليت. لا، لا أو أسماء معاصرة من الفصل المقابل مثل جاليا أو ليهي، فقط أسماء إسرائيلية إن أمكن. أنا غريبة، لغتي مختلفة، لا أنتمي إلى حد كبير، لست عبريّة إلى حد كبير. نينا.
فجأة من المناسب لي أن أخرج عن الصورة العامة وأن أحمل بكل فخر الاسم والتراث وجميع تقاليدنا الثقافية. لا ينبغي على أن أعاني مثل موشيه وإيتي، إخوتي، بأسمائهم القديمة، أنا نينا.
ما هو أصل الاسم؟ تسألني كيرين عندما نلتقي في منزل اصدقاء والدَي. على أسم جدتي، سرعان ما أسحب الجواب الجاهز. ولكن هل هذا كل الاسم، تسأل بلطف؟ أنكمش، ألقي نظرة على أخي، وعلى الأرض، وأقول “أوه…” وفجأة تقول لوسي، صديقة أمي، لا، الأصل ليس كذلك. حانينا، أقول على خلفية الصمت القاطع. اعترف ويحمرّ وجهي. حانينا، هذا هو الأصل. يتجمع إخوتي في الزاوية، وفقط يوناثان يبتسم في وجهي، وفي الليل يسألني ماذا كان سيحدث لو كان والدَي قد ذهبا بعيداً إلى أقصى الاحتمالات.
تيتا
أمشي في ممرات من الرخام اللامع في بيت المسنين. أمر سريعًا عبر الغرف التي ينبعث منها خليط حاد من روائح سوائل تنظيف الأرضيات والتبييض، ربما حتى البول، أقلص مناخيري كي لا أشعر بها. كما أنني لا أتجرأ على النظر إلى المسنين في الغرف بل أبحث عن تيتا، أخت جدتي، التي بقيت بمثابة الجدة الكبرى لنا جميعًا. أين تيتا، أين تيتا، قالت أختي أنها قصت شعرها. أشعر بدقات القلب، واحدة قوية وأخرى ضعيفة، قوية ضعيفة، قوية ضعيفة. قد أجدها مع جذور بيضاء حيث سينفصل الشعر الأشقر المرتب بخصلة شعر ملبّد أشيب، مثلما حدث عندما مرضت ولم توافق بأن تصبغ أمي لها شعرها. أين تيتا، ربما وضعوها في النهاية، في غرفة خاصة بها. من المؤكد بانها لا تستطيع تحمّل المسنين هنا، فهي بالكاد تحملت أحاديث صديقاتها في النادي الإسباني. أمر عبر مسنين يجلسون على مقعد من الكراسي الموصولة، هنا مسن يصرخ ويتنفس بصعوية، وإلى الطرف تتكئ الممرضات على باب، تمضغن العلكة وتلتقين بعينيَ، المتحرية، الجديدة. تنكشف أمامي باحة مربعة، أين تيتا. في ذهني تلك التيتا، السمينة، العفية، بالذقن المزدوج، باليدين المشذبّتين، الأنيقتين والبراقتين، تيتا كما كانت في صور ليلة الحنّة، مزينة بالمجوهرات الذهبية الناعمة، ممكيجة، متألقة. تيتا التي كان زوجها يملك أول سيارة في أشكلون، بحكايات طنجة والفيلا الفخمة التي كان أبي يأتي إليها وكلاهما كانا يشتريان له، لإبن الأخ الحبيب، كل ما في الفترينات، لأن تيتا لم يكن لديها أولاد. أين تيتا الآن؟ لماذا يجلس المسنون في البهو المركزي وينظرون إلى النافذة ويضعون المرايل على أجسامهم، لماذا يدفنون رؤوسهم في المائدة. بالتأكيد أخرجوا تيتا من هنا وأمي لم تخبرني.
أتخطى رؤوس المسنين محاولة العثور على رأس تيتا الذهبي، وأقترب من بقعة حمراء تجذب بؤبؤ عيني، رأس مشعر أحمر وقصير، ترفرف عيوني نحو العنق الأبيض الأملس، النظيف. عنق تيتا. تيتا، تيتا Nina! ¡Soy yo، أناديها من الخلف.¿Cuál Nina? نينا من، تسأل . Nina la morena, Nina la morena، نينا السمراء، نينا السمراء، أقول مبتسمة، فهذا اللقب الذي اخترعته لي انت، وأنا رفضته دائماً. نينا لا روبيا، نينا الشقراء، ابنة ابن الأخ الثانية، ونينا لا مورنا، أنا، لا مورنا. تنظر تيتا من خلالي، مشدوهة من الحبوب المخدرة، عيونها مغشية بستارة صغيرة بيضاء. تيتا، أحضرت لك شوكولاطة، أقول مفتعلة الابتهاج، وأحاول بحذر أن أدس في فمها مكعب شوكولاطة; الشوكولاطة السوداء التي طالما أحبتها وكانت تقدمها لي، لكي تكون تلك فرصة بالنسبة لها لتأكل شيئاً. يلامس لسان تيتا المكعب لكنه يبقى كاملاً وخيوط من الشوكولاطة الرطبة تسيل من فمها، مثل الماسكارا المتخثرة من الدموع. تيتا ملقية في الكرسي المتحرك، على رقبتها المريول المبقع بالصدأ، بالشعر الأحمر ومفرق الرأس الأبيض وأظافرها طويلة وصفراء. هي تعرف أنني هنا ولكنها تفضل التظاهر بأنها ليست هنا. ترفع رأسها فجأة وتقول لي بملامح حادة، Dad la a la “ahot” 20 shekalim أعطي الممرضة عشرين شاقلاً؟ انا لا أفهم، Sí, sí, mi alma, “bameguerá” está, dáselo. إنها هناك في الدرج، أعطها.
أقود تيتا إلى غرفتها، وهي تلح علي بإيماءات فزعة كي أفحص ما إذا كانت الورقة النقدية في الدرج. أهدئها، وهي تريد أن أرتب لها رجلها في الكرسي المتحرك، أثبتها ولكنها تلقي برجلها، أسوي ركبتيها مجدداً وهي تحركها. الجو حار الآن في الغرفة وأريد أن أضع تيتا في السرير; يظهر من بنطالها الحفاض الذي تمزقت أطرافه. أجلس بقربها وألاطفها، أداعب خصل شعرها الجديد، أياديها المثقوبة ببقع دم بنفسجية، قطرات صباحها المتعرق. تيتا الحبيبة، التي كانت تحب ان تغسل لي شعري بالكرويتر (بلسم قديم) الأخضر في البانيو الصغير الذي كان يستخدم بالماضي والذي يتواجد فيه سلم صغير للجلوس، وأن تعد لي البيض المخفوق مع الزبدة والخبز المدوّر مع فتات السكر من فوق ومكعب من الشوكولاطة الذائبة في الداخل، ولم تغضب حتى عندما كنت أقضم الشوكولاطة الساخنة فقط وألقي ببقايا الخبز في الطبق، تيتا التي كانت تقطع رقائق البطاطس رقيقة رقيقة، وفي كل عام كانت تقول أنظري إلى يدي، حتى الحياكة لا يمكنني القيام بها. تيتا التي كانت تنفعل من فتح العلبة الكبيرة، وإخراج الصور بالأبيض والأسود والحديث بالتفصيل عن كل ما كان في sefardi, هي التي كانت مختلفة للغاية عني، شقراء جدية ومرتبة. كانت تفتح الدرج المقفل بمفتاح صغير وتخرج من قاعه مناديل امها المطرزة وفي داخلها طويت رسمة: رسمة بالأحمر، الأخضر والأصفر مع بيت وشمس تبعثرت عليها كتب بخط أطفال لم يتعلموا كتابة الأحرف– نينا، لتقول كمن تكشف سرا حلواً وهاماً، للمرة التي لا يمكن تعدادها، Es tuyo de “kita álef”، هذه لك من صف الأول، فأقول لها، تيتا، منذ ذلك الوقت وأنا أرسم بنفس الشكل، لم يتطور شيء، Anda ya, تقول، دعك من هذا، وتبتسم وأخيراً. تيتا، أقول لها الآن في الغرفة الرمادية، في سرير الحديد الكبير، تيتا، ابتسمي لنينا لا مورنا، ابتسمي الآن، ألم ترغبي أن آتي؟ فتقول، سامحيني، mi reina, perdóname.
معلمون
يجلسون بنصف دائرة، بهدوء. دزينة رجال ذوو نظرة عميقة. وسيمون، حليقو الذقون، بعضهم يحمل سوالف أنيقة ومصفّفة. يرتدون قمصان مزرّرة، زرقاء، بيضاء، سوداء ورمادية. لأحدهم، وهو الأكبر منهم سنًا، شعر طويل، أملس، ربما مصبوغ جزئيًا. يمسكون بأيديهم القصيدة التي وزعتها، “لصورة أمّي” بقلم ليئا غولدبرغ. أطلب من يوسف أن يقرأه – عندما يقرأ قصيدة أفهمها فجأة: فنبرات صوته تذكّرني بالأجيال العتيقة من العبرية كان يمكن بها سماع حركة الـ(مابيك) الترقيمية على حرف الهاء.
ينظرون إليّ باهتمام، يتفحصون ردود أفعالي. فنحن نتشارك بذات الشحنة الثقافية: لقد درسنا جميعنا الأدب في الجامعة، ونحن جميعًا نعلّم اللغة العبرية. يتّضح في المحادثات القصيرة في الاستراحات فجأة أن أولئك المعلّمون يحملون مهنة إضافية، “علينا الاسترزاق” يقول شفيق، وهو عامل اجتماعي يكتب رسالة دكتوراه في شعر الشهوة بين الرجال في العصور الوسطى. رائد يعمل ممثلًا في المسرح العربي اليهودي في يافا. باسم الذي درس التوراة في الجامعة العبرية في القدس، يعمل في دكّان مع نسيبه وحاتم حدّاد. أنظر إليهم باهتمام، أسمع كيف يعلّمون أعمال بياليك وألترمان وزاخ وأشعر بالرغبة للجلوس بينهم ولكني أكتفي بكلمات مثل: جميل جدًّا، رائع.
سأكرس الدرس القادم لسفر راعوت؛ عليّ إرشادهم حول كيفيّة تعليم قصّة راعوث الموآبية ونعمي الحماة التائهة. لماذا علينا أن نتعلم فصلًا من التوراة واليهود لم يتعلموا ولو آية من القرآن الكريم؟ هم يعكسون أسئلة الطلاب في الفصول الدراسية. أقف أمامهم وأريد أن أعطيهم شيئًا، ليس راعوث وبوعز وبذور بيت داوود. أنظر إليهم وأقول، دعوكم، هيا نكرّس الوقت لكتابة شيء عنّا. كلّ واحد سوف يكتب قصة قصيرة عن نفسه. يتقبّلون المهمّة دون أسئلة. يتأمّلون الورقة وبيّ وأنا أوافق بغمزة. يكتبون بنشاط، يكتبون الحقيقة من دون تناول الشؤون السياسية، عن الأب والأم والزوجة وصعوبات الحياة اليومية في الفصول الدراسية والعنف الذي يمارسه الطلاب ضدهم، كل هذا مكتوب بلغة عبرية متينة، بشكل وأسلوب أدبي، الروح اللطيفة في هيئة أجساد قوية.
يرفع الياس يده بتردّد، ويقول انه سوف يقرأ، ولكن يطلب أن يتمّ ذلك دون أسئلة. هو أشقر ولديه عيون خضراء كبيرة، وأنا أعلم أن أكثر ما يحب هو الذهاب في رحلات التسوّق، الجري في الحقول والتحدّث إلى صديق محادثة من القلب. هذا ما قاله عندما قدّم نفسه لأول مرّة وشعرت أن قلوبنا تنبض بنفس الوتيرة. يبلغ من العمر فقط 30 سنة ولم يتلقَ بعد الترقية كمعلّم. يتحدّث عن سبع سنوات صعبة، من التكيّف الدؤوب، من الصراع الذي نجح فقط بالإيمان. كان يعلم أنه في النهاية سوف يفوز، جنبًا إلى جانب مع زوجته، سوف ينجحان. ليلة ليلة لسبع سنوات. نتوقف عن التنفّس ولا أستطيع إخفاء عيوني المغرورقة. إن شاء الله كلّ شيء سيتدبّر، يقول ويسكت. ننظر إليه ولا أحد يتحدّث. ينظر إليّ ويقول: الآن لدينا توائم. لقد انقضت سبع سنوات ولم ننكسرْ. أفكر فيه وفي زوجته، وآمل أن يحصلوا على أفضل علاج هنا في المثلّث، وأتمنى للمعلّمين الحساسين من حولي ألّا يواجهوا مزيدًا من العقبات. إن شاء الله.