شاي زمير
“لا تحول السياسة إلى علم نفس ولا تكن ساذجاً”، تناشد ناطور صديقته. “فيتوجب علينا ألا نتلخبط في نهاية المطاف. يجب أن نتذكر دائماً من الذئب في هذه القصة ومن الكبش.. لا تضع كلاهما في نفس الميزان، لا تقارن بين المفترس والفريسة”. عام مضى منذ وفاة الكاتب الفلسطيني سلمان ناطور الذي يحلو للبعض ذكر أصله الدرزي ربما لإعفائه وإعفاء القارئ العبري من ثنائية المفترس والفريسة. لكن ناطور المولود في دالية الكرمل التي ارتبط بها طوال حياته ليس بحاجة لشهادة صلاحية لكي يتحبب إلى قرائه. حيث يقوم بهذه المهمه “ماش على الريح” (اصدار “عولام حداش”، ترجمة للعربية: يونتان مندل)، الكتاب الأول في سلسة “مكتوب- أدب عربي بالعبرية”، الذي يجمع قصص تجوال ثلاث لناطور نشرت منذ 1992 في رام الله، يافا وعمان. واثق من هويته، يتجرأ ناطور على التلخبط، مرة تلو الأخرى، وعلى الرغم من تناول الكثير من أعماله للنكبة الفلسطينية والطرد والنسيان، نتعرف في كتابه هذا على محاولاته لمعرفة المفترسين بالذات.
في بداية سنوات ال-90، عندما صورت قنوات التلفزيون سكان بين شان (بيسان) كغوغاء يصرخون “الموت للعرب”، قرر ناطور السفر إلى الغور ومقابلة الناس الذين يسكنون هناك. “اعتقدت مرة بأنه لن يكون هناك عربي يقدم على الدخول لهناك، (أما في الواقع) فليس من السهل بأن تفرق في بين شان بين وجه العربي ووجه اليهودي”. في طريقه إلى هناك أقل في مركبته مسناً انتظر طويلا دون أن يسعفه أحد. “صدقني”، قال المسن للسائق، “لم يبق هنا يهود صالحين.. أنت اليهودي الوحيد الذي بقي هنا”.
يقدم هذا اليهودي الصالح في كتابه نصيحة مجانية لمن يريدون في عام 2017 الخروج من المدينة ليستوضحوا من هم هؤلاء الناس “الغير عقلانيين” الذين يصوتون لترامب او لنتنياهو: “اذا لم تتملق وأظهرت قدراً من التواضع ستكسب أصدقاء جدد خلال دقائق.. أيضاً وسط هؤلاء الذي يعرفون بأنك لا توافقهم الرأي”.
في كثير من الأحيان، يعرض الأدباء الفلسطينيين في الكتابة بالعبرية ك”انسانيين” أو “مثقفين”، ربما للتركيز على كونيتهم، خلافاً للبعد القومجي، وربما للإطراء لهم. في حالة الكثير منهم، خريجي الصحيفة الشيوعية “الاتحاد”، هناك الكثير من الحقيقة في ذلك. ولكن في حالة ناطور، يجب قراءة كتابه ليس لأنه عمل في الأمم المتحدة إنما بسبب حب الاستطلاع الكبير الذي يبديه في كل لقاء مع انسان آخر، ان كان حاخاماً معروفاً من بين شان أم ضابطاً بريطانياً في مراقبة الحدود يفقد أعصابه بسبب كيس تفوح رائحته بالزعتر. “فنحن اشتهرنا كمن جعلنا الزعتر سلاحاً ناجعاً ضد الامبريالية. انظروا الينا: هم يسقطون علينا القنابل ونحن نرشهم بالزعتر”.
ناطور يرى أناساً حيث يرى الآخرين وحوشاً. في صيف 1989 خلال حملة “حليب لأولاد غزة”، اعترضت مجموعة من الشبان طريق شاحنات الحليب وقامت بسفكه. في خضم الجلبة، سقطت نظارات ناطور وساعده احد الشبان الذي لوح بيديه قبل وهلة على رفعها. “سمعت نظريات كثيرة ومتنوعة عن العنصرية من أصدقاء لي، مثقفين وأنبياء غضب”، يلخص ناطور الحادثة، “جميعهم كانوا على ثقة بأنه في داخل كل انسان هناك عنصري صغير.. وتساءلت ان لم يكن العكس هو الصحيح: بأن هناك في داخل كل عنصري انسان صغير؟”.
يصف ناطور بلغة شعرية حلقات من حياته ومن حياة فلسطينية موازية أو ممكنة على الكرمل، تحت وطأة الحكم العسكري على عرب إسرائيل، وفي حيفا التي يخصص الجزء الثالث من الكتاب للعودة لها. في هذا الباب يجد القارئ المواضيع العادية التي تظهر في أدب العودة: الأماكن المعروفة التي تحصل على أسماء جديدة، عبرية أو سخيفة مثل “غور الكحول”.
إلى جانب هذه، يحظى القارئ بفرصة للنظر إلى حيفا بعيون جديدة، يومية أكثر، وهو معد بحساسية من نوع آخر: ساحة باريس، التي كانت في الماضي ساحة الحناطير، ليست إلا بورصة عبيد يأتي اليها العمال الفلسطينيون في الصباح الباكر ويعرضون أنفسهم للبيع، يتهافتون على سيارات المقاولين: على خرائب ما كان حمام الباشا في الماضي غير البعيد تقف اليوم مكاتب حكومية من زجاج. قد يرمز اسم الكتاب لطريقة القراءة التي تستنفذ معانيه بأكبر قدر ممكن: ناطور يدعو القارئ للمشي معه في إسرائيل-فلسطيني بين أشباح الماضي وكذلك في الحاضر الذي يتطلب استخدام الخيال بشكل دائم لرؤية ما بعد التقطيعات الخشنة للواقع.
*نشرت المراجعة للمرة الأولى باللغة العبرية في ملحق “7 ليالي” لصحيفة “يديعوت أحرونوت” بتاريخ 11.3.2017.
*تمت ترجمة الاقتباسات بناء على النص العبري وليس الأصلي بالعربية.