مرَّ أكثر من عام على وفاة شمعون بلاص (2019)، المؤلف والمفكر والمعلم والرائد السياسي. وكما قالت صديقتنا المشتركة شوشانا غاباي، فإن شمعون هو “الأب الروحي لليسار السياسي لليهود الشرقيين”. لقد أحببته كأب. حتى أنني تجرأت ذات يوم وقلت له أتمنّى لو كنت أبي. فابتسم تلك الابتسامة الخجولة. كان ذلك كلّ شيء. لعلّي أحرجته عندما قلت له ذلك.
ولد شمعون بلاص سنة 1930 في حي البتاوين “المسيحي” في بغداد. وفي سيرته الذاتية ” First Person Singular” (2009) يقول إن سنوات المراهقة كانت فترة اكتشاف وحبّ اللغة العربية، خصوصاً الأدب العربي. فقد كان مأخوذاً بأعمال جبران خليل جبران وطه حسين اللذين كان يتلذذ بطعم كلماتهما ليلاً نهارًا في سنوات مراهقته. وأقرّ بلاص بأنه أصبح عضواً في الحزب الشيوعي في العراق بعد أن قرأ رواية “العقب الحديدية” لجاك لندن. وفي عام 1948، انضم إلى حملة الحزب المناهضة للإمبريالية ضد معاهدة بورتسموث المبرمة بين العراق والمملكة المتحدة.
وصل بلاص إلى إسرائيل قادماً من بغداد سنة 1951، وانتهى به المطاف في مخيم مؤقت للمهاجرين (“معبرة” باللغة العبرية) على مشارف المجدل – المدينة الفلسطينية التي كانت قد طُهّرت مؤخراً من جميع سكانها الفلسطينيين. تدور أحداث “آيا”، إحدى أكثر روايات بلاص تأثيراً، حول مربّيته المسلمة، الشخصية الرئيسية، وانفصال المؤلف المؤلم عنها: رمز انفصاله عن وطنه. فلم يكن الانتقال إلى إسرائيل سهلاً على الإطلاق، وكما قال: “كان الجلوس في مخيم المهاجرين بمثابة انحدار إلى عالم جديد، عالم جُرّد فيه المرء من جميع خصوصياته، حيث تكون كلّ حركة تُقدم عليها، سواء في داخل الخيمة أم في خارجها، تحت أنظار الآخرين”. ولم يُضع بلاص وقتاً فانضم إلى الحزب الشيوعي المحلي وهو لا يزال في معسكر المهاجرين، وبدأ يوزع صحيفتي الحزب باللغتين العربية والرومانية للسكان المحليين في المنطقة. ثم بدأ يكتب بالعربية في صحيفة الحزب اليومية “الاتحاد”. وبدأ ينشر أيضاً مجموعة متنوعة من القصص العربية القصيرة في الملحق الأدبي لصحيفة الاتحاد، ملحق “الجديد” باسم مستعار هو “أديب القاصّ”. وإلى جانب التزامه الأيديولوجي بالواقعية الاجتماعية (على غرار لوكاش) والماركسية النقدية، أظهر بلاص التزاماً قوياً لقرائه، أي الفلسطينيين المحليين. ثم أصبح أول شخص يقوم بجمع وترجمة مجموعة قصص فلسطينية (1970) في وقت لم يكن أحد في إسرائيل يعترف بوجود شعب فلسطيني، ناهيك عن وجود أدب فلسطيني وطني.
لم يتخلّ بلاص قط عن لغته العربية الأمّ أو يخنقها. فقد كان واحداً من حفنة من اليهود العراقيين الذين درّسوا الأدب العربي في الجامعة، وربىّ أجيالاً من الطلاب الفلسطينيين على الوعي الاجتماعي والسياسي في أعقاب نكبة 1948 التي شهدت إبادة تامة وكاملة للنخبة الفلسطينية. وحكى لي بعض الفلسطينيين باحترام شديد عن مجموعة كبيرة من الحكايات والقصص التي كتبها بلاص بلغة عربية جميلة وعن تفانيه الذي لم يفتر. ويتردد صدى التزامه باللغة العربية وبالثقافة العربية في مجموعة أعماله الأدبية، وكان يقول مراراً: “لا أنكر أبداً أصولي العربية أو لغتي العربية”. في إحدى المناسبات، أبدى دهشته عندما أدرك مدى جهل قادة الحزب الشيوعي اليهودي (معظمهم من اليهود الأشكناز) بالعالم العربي، ناهيك عن أميّتهم باللغة العربية. في هذا السياق، كان بلاص أيضاً أول من أطلق على نفسه لقب “يهودي عربي”، وسرعان ما حذا حذوه عدد من معاصريه مثل سامي ميخائيل وساسون سومخ، بالإضافة إلى الأجيال الشابة، وأنا منهم، الذين رأوا شيئاً عن أنفسهم وقيمهم في المسار الاجتماعي والسياسي الذي اختطه لنفسه.
يُعتبر شمعون بلاص الأب الروحي لليساريين المزراحيين (الشرقيين) لعدة أسباب: أحدها أنه أول كاتب مثّل اليهود الشرقيين في الأدب. وكمفكّر نقدي، دأب على الكتابة والدعوة إلى العدالة والمساواة. والأهم من ذلك، فقد كشف بلاص بجرأة عن الآليات الاستعمارية الراسخة السائدة في المجتمع الإسرائيلي. إلاّ أن مساهماته في تشكيل وتمكين هوية اليساريين المزراحيين لم تتوقف عند هذا الحد. فقد رفض شمعون قبول الرواية الصهيونية التي تصف إسرائيل بأنها “أرض الميعاد”. وفي مقابلة أجراها معه أمييل القلاعي عام 1994، لخصّ بلاص تجربته في الهجرة من بغداد إلى تل أبيب على النحو التالي، “لقد جئت من بيئة عربية، وما زلت في حوار دائم مع بيئة عربية”، وأضاف، “لم أغيّر بيئتي قط. وإنما انتقلت بكل بساطة من مكان إلى آخر في داخل تلك البيئة. إن مشروع المفهوم القومي، عن الأيديولوجية الصهيونية، ووجهة النظر اليهودية، والصلات التي تربط بين اليهود في الشتات وإسرائيل، أعتبر كلّ ذلك أمراً تافهاً ولا يؤدي دوراً رئيسياً (في حياتي). إنها لا تشكل جزءاً من عالمي الثقافي”.
في عام 1964، وبدون سابق إنذار، أصدر بلاص روايته الأولى باللغة العبرية بعنوان “معبرا” (مخيم المهاجرين المؤقت) التي أصبحت لاحقاً رواية كلاسيكية ومنطلقاً لأجيال من القراء والمعلمين والطلاب على حد سواء. وقد سبقت هذه الرواية نسخة عربية منها بعنوان “يوميات خادمة”، نُشر منها مقتطفان باعتبارهما قصتين بحد ذاتهما في مجلة “الجديد”. لكن انتهى الأمر بأن بقيت المخطوطة حبيسة الأدراج يكسوها الغبار لفترة طويلة، لأن الحزب الشيوعي في ذلك الوقت لم يكن يطبع روايات. فقرر بلاص أن يحوّل الكتاب إلى رواية عبرية.
كان الألم الذي جعله يضطر إلى أن يهجر اللغة العربية باعتبارها لغته في التعبير الأدبي شديداً. وأمضى بلاص قرابة سنتين في كتابة النسخة العبرية من الرواية، بعد أن انهمك تماماً بقراءة الكتاب المقدس والمشناه، وتوقف في الوقت نفسه عن قراءة أي شيء باللغة العربية وعدم سماع أي محتوى إذاعي بالعربية. لكن اللغة العربية التي اضطر إلى الانفصال عنها لفترة طويلة، ظلت تستحوذ على تفكيره. إذ يقول: “في إحدى الليالي، عندما عدت إلى المنزل في وقت متأخر من المطبعة، أخذت كتاب “الأيام” لطه حسين قبل أن أخلد إلى النوم لأبحث عن شيء. لكن بعد أن أطفأت الضوء، صدمتني موجة هائلة من الكلمات والجمل والأشعار باللغة العربية التي تدفقت فجأة وأزالت النوم من عينيّ حتى طلع النهار. كان ذلك انتقام اللغة العربية مني، العقوبة التي ربما كنت أستحقها لأنني أدرت ظهري إلى لغتي الأمّ الحبيبة”.
في جميع الأحوال، أصبحت “المعبرة” أول محطة يجد فيها السرد المزراحي مكانه في الأدب العبري التي دفع بلاص ثمناً باهظاً من أجلها. فقد أطلق عليه الكتّاب ونقّاد الأدب العبرانيون الذين لم يفهموا تعقيد عمله لقباً مهيناً يدعو إلى الرثاء “كاتب عنصري”.
على الرغم من كتابته باللغة العبرية، اعتبر بلاص نفسه في واقع الأمر كاتباً عربياً في المنفى. وبقي على تواصل دائم مع مجموعة من المنفيين السياسيين، سواء في باريس أم في لندن، الذين كان يستمع إليهم وإلى قصصهم ثمّ يصورّها لاحقاً في رواية. في أعماله الأدبية، أعطى صوتاً لجيله من عرب ما بعد الاستعمار في المنفى، وكتب عن حياة الشتات بتعاطف شديد. في روايته التي أصبحت الآن عملاً كلاسيكية، “المنبوذ”، التي صدرت عام 1991، أثناء حرب الخليج الأولى، صوّر بلاص الواقع الافتراضي ليهودي عراقي يدعى أحمد نسيم سوسا الذي اعتنق الإسلام وظلّ في العراق بعد هجرة اليهود الجماعية في ذلك البلد. ومع أن الرواية ليست سيرة ذاتية بحد ذاتها، فإنها تحتوي على عناصر سيرة ذاتية واضحة استخدمها بلاص لرسم واقع متخيّل – أو ما أطلق عليه يوفال إيفري “الخيار العراقي” الذي لم يعد، في نهاية الأمر، مقبول تماماً لبلاص أو لمعاصريه. يؤدي هذا السيناريو الذي يسبر بلاص أغواره في الرواية، دوراً محورياً في تحدي السرد التاريخي حيث كان اليهود العرب يواجهون خطر الإبادة الجماعية، وكانت هجرتهم في واقع الأمر مهمة إنقاذ. وجادل بأن ما نجده في كتب التاريخ، من نواحٍ عديدة، هو في الواقع امتداد، إن لم يكن إسقاط، للخطاب حول اليهود الأوروبيين (ورواية الإبادة) على اليهود من أصول عربية. وتُبرز الرواية الترددات والشكوك والتناقضات، لكنها تُبرز في المرتبة الأولى، العمليات غير الخطية المهيمنة التي تؤدي دورها في المجال الوطني العراقي. وتقدّم رواية “المنبوذ” إمكانية الهجرة بين الخطابات القومية (سواء أكانت صهيونية أم عربية) التي تم تهجينها إلى حد أكبر بكثير مما هو معترف به.
تركّز رواية بلاص “الشتاء الأخير” على مجموعة من المنفيين الماركسيين الثوريين في باريس. ونجد في قلب الرواية هنري كورييل، يهودي مصري هاجر إلى باريس. وتظهر في الرواية أيضاً مجموعة من الشخصيات الواقعية الأخرى مثل الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، والكاتب التونسي العفيف الأخضر. وفي رواية “نذر الخريف”، يركز بلاص على شخصية الكاتب المصري حسين فوزي وأزمة الهوية التي عصفت به في خريف حياته. وتحكي روايته “وحيداً” بأب المسرح المصري الساخر يعقوب صنوع (جيمس سانووا، الملقب بأبي نظارة) – وهو صحفي يهودي وقومي مصري كان أيضاً من أشدّ المنتقدين لتعاون خديوي مصر آنذاك، إسماعيل باشا، مع البريطانيين، فنفي إلى باريس.
كان شمعون معلّمي باللغة العربية. عندما قررت أن أستعيدُ أخيراً لغتي الأم بعد أن مُحيت بصورة منهجية طوال فترة دراستي في المدارس الصهيونية، أعطاني شمعون أول كتاب باللغة العربية، وهو كتاب غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”. لذلك، كنت في غاية الحماسة، عندما رأيت آخر رواية كتبها إلياس خوري، “نجمة البحر” التي رأيتُ فيها شخصية شمعون بلاص. كان حزقيل كساب مساعد مدرس في جامعة حيفا، ومع أنه لا يصوّر بلاص تماماً، فإن أوجه الشبه بينهما كبيرة. فكساب هو الذي يقنع آدم، بطل الرواية الفلسطيني، بالعودة لدراسة اللغة العربية والأدب العربي. والشيء المحزن حقاً هو أن بلاص لم يقرأ هذه الرواية المكتوبة أصلاً باللغة العربية التي قمت بترجمتها إلى اللغة العبرية، باعتباري تلميذه.
منذ حوالي خمس عشرة سنة، ترجمتُ مجموعة قصصية للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة. عندما عرف شمعون ذلك، أهداني مجلديْ السيرة الذاتية لنعيمة، (سبعون) كانا على رف مكتبة منزله. كان شمعون في ذلك الوقت يقارب الخامسة والسبعين من عمره. قال لي في تلك اللحظة الثمينة: “عندما اشتريت هذين الكتابين، كنت في الأربعين من عمري، وقلت لنفسي: سبعون؟ لا يزال الطريق طويلاً”، بينما قلت في نفسي، سبعون؟ إنها بعيدة حقاً”. وماذا تعرف؟ فها أنا هنا الآن، على أعتاب السبعين، وسأنقل قريباً هذه الهدية بين الأجيال إلى أصدقائي الأصغر سناً مني الذين أكملوا أو لا يزالون يشقون طريقهم في رحلتهم السحرية إلى اللغة العربية.
وداعاً عزيزنا شمعون. كم أحدث وجودك فرقاً في هذا العالم.
* نشرت هذه المقالة بالانكليزية في العدد 69 من مجلة “بانيبال” المخصصة للأدب العربي. ترجمها الى العربية: خالد الجبيلي.