كان قد مرّ على طلاقها خمس سنوات. بدأ يراودها إحساس غريب، ومعاناة غياب حتّى في لحظة الحضور. أحسّت بحنين جامح إلى “فارس”، هذا الشاب المتكوّر عارياً في سريرها، مرّت ساعة كاملة وهي تراقبه عاريًا في سريرها وكأنّها تريد حفظ زوايا جسده عن ظهر قلب. أرادت تخزين هذه الذكريات إلى اليوم الذي لن يجمعهما في لقاء. تأجّج الحنين في قلبها وكاد يغادر قفصه الأبدي وهو يحاول الخروج. عندما فتح “فارس” عينيه العسليّتين، شعرت بمعاناة الحنين إليه في حضرته إذ كانت تستشرف مستقبلًا ضبابيًّا، لن يكون في سريرها بعد أن يخطفه سربه أو يقذفه سربها.
خلال لحظات الحنين الغريب، تذكّرت مأساتها. في هذه الأثناء رفع تيّار الهواء القادم من بحر حيفا الستائر الحمر قرب النافذة التي تطلّ على البحر. أحسّت “منال” التي كانت عارية بلسعة باردة. اجتاحها إحساس بخطر هائل يدخل عالمها بدون استئذان. نهضت من سريرها الدافئ وخطت خطوتين باتّجاه النافذة، ولكنّها توقّفت فجأة في منتصف المسافة لأنّها لم تكن تعرف وجهة تتّخذها للرحيل.
بلغ التخبّط مداه فأحسّت أنّ قوّة خفيّة تدفعها نحو النافذة وأخرى تحاول استدراجها لتعود إلى حضن “فارس” الذي أغلق عينيه من جديد وراح يسافر في حلم هلاميّ. تكوّرت عارية بجانبه وهي تحاول أن تتنفّس أنفاسه الحارّة، إنّه الرجل الذي أحبّها، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يهمّها الآن. أدركت الآن معنى كلماته المبهمة التي قالها أوّل مرّة حين تجرّأ على محادثتها. أدركت الآن أنّه الوحيد الذي شعرت معه أنّها امرأة. أحسّت بوخزة في خاصرتها وشعرت وكأنّ أحدهم يلوي ذراعها لتتّجه إلى النافذة حيث الستائر الحمر. انتفضت من سريرها وهرولت إلى النافذة لتراقب شاطئ البحر في حيفا حيث التقت “بفارس” هناك لأوّل مرّة.
“منال سمير” أنهت دراستها الأكاديميّة في جامعة حيفا. تربّت في بيت ذكوريّ. تزوّجت ابن عمّها طبيب الأسنان ثمّ طلّقها بعد ثلاثة أشهر، فقد ادّعى أنّهم زوّجوه رجلًا وهو يريد في بيته أنثى. اكتشفت بعد الطلاق بانّها في أيّام الحمل الأولى. حاولت العائلة إقناعها بإجراء عمليّة إجهاض فرفضت. بعد أشهر رزقت بفتاة أسمتها حُسام. تمرّدت على العادات والتقاليد في مجتمعها الحربائيّ. راحت تلبس مثل الرجال، حتّى أنّها رتّبت تسريحة شعرها لتظهر بمظهر شابّ متمرّد على الكون الذي يحويه.
منذ سنتين التحقت كمدرّسة للغة العربيّة وآدابها في المدرسة الثانويّة. كانت تشعر وهي تتحرّك في غرفة المدرّسين بأنّها محاطة بأناس عراة. كانت ترتب أفكارها في مخيّلتها المبدعة لتكتشف كيف يمكن أن تخرج من هذه الحالة. هذه الغرفة اللعينة، بهذا الجوّ المتحوّل، بفراغها اللعين غير المتوقّع، كان عليها طرد كلّ هذه العفونة. اغمضت عينيها لدقائق معدودة وهي وسط الغوغاء. عليها استغلال “زمن العهر”، تلفظت بصمت لنفسها بقولها “زمن العهر”. لا إراديًّا هدهد صوتها في جنبات الغرفة “أريد أن أعيش… أريد أن أعيش”…
وقف صوت عذب ومرتعش قليلًا في وجه منال سمير، “ولكن لماذا نحن إذن في هذه الدنيا؟ لماذا نعيش؟ وإلى أين المسير؟” كان هذا معلّم اللغة العبريّة الذي طالما قال لها: “أنتِ بألف رجل” وهو يداعبها ويدعوها لاحتساء القهوة وتدخين سيجارة في زاوية المدخّنين، وكم كانت ترغب في ذلك.
عادت إلى منزلها غارقة في أفكارها. بدأت بترتيب خزانة ملابسها المليئة بملابس الرجال التي أصرّت على أنّه من حقّها أن تلبسها في كلّ مكان وزمان تختاره هي. توقّفت مطوّلاً أمام الخزانة التي تحوي ملابسها الداخليّة وحمّالات صدرها، وابتسمت ابتسامة عريضة فيها من الانوثة الشيء الكثير.
كانت قد حزمت أمرها. قدّمت أوراقها وشهاداتها لعطاء مديرة المدرسة بعد أن أحيل مديرها الحاليّ إلى التقاعد. لقد كان هذا حديث حيفا بأكملها. ادّعى الجميع بأنّ أفكارها قاتمة. هي لا تبالي. تقول لنفسها أفكاري قاتمة ولكنّها لم تعد تستطيع أن تجلب عليّ أيّ لعنة. كانت تدرك أن هناك مؤامرة كونيّة عليها. تعاهد المدير الحاليّ للمدرسة الثانويّة مع وريثه الشرعيّ. اتّفق المفتّش العامّ مع الوريث الشرعيّ المزعوم على دعمه في العطاء. هذا كلّه أعطاها قوّة خفيّة للإصرار للتوجّه إلى الأمام.
قبل يومين من موعد العطاء. بعد أن أوقفت سيّارتها في موقف المدرسة، تجمهر حولها قسم من طلّاب المدرسة، وانهالت عليها عبارات التشجيع. أصبح وجهها مشرقًا كما لو كانت أفاقت من نعاس. عند دخولها بوّابة المدرسة انتصب البوّاب كتمثال فرعونيّ وهو يؤدّي لها التحيّة اليوميّة وقال لها بصوت جهوريّ سمعه من في ساحة المدرسة من الطلّاب والمدرّسين: “أنت الرجل الوحيد في هذه المدرسة”. اعتلت خدودها حمرة واضحة وهي ترتّب هندامها الرجوليّ وتداعب ربطة عنقها السوداء المنسدلة على صدرها المشدود.
جلست في مكانها المعهود في غرفة المدرّسين في الزاوية الغربيّة البعيدة عن مركز الحدث. اقتربت منها صديقتها “فاتن سميح” مدرّسة اللغة الإنكليزيّة وهي المعروفة بقربها من مدير المدرسة وابتسامتها الصفراء على وجهها القاتم قائلة لها: “من يريد أن يكون القائد عليه أن يجلس في المركز”. ظهرت منال سمير وهي تداعب ربطة عنقها وبدون التفات إلى فاتن سميح، قالت بصوت جهوريّ سمعه الجميع: “أينما أجلس أنا تكون الصدارة، ألم تقرأي ذلك عن نابليون”، قالت ذلك وهي تشدّ أطراف جاكيتها السوداء الرجّاليّة وكأنّها تريد أن تخفي صدرها المتكوّر، ثم أردفت قائلة همساً في أذن فاتن سميح: “الرجال يساعدون بعضهم وهم أعداء، ونحن النساء نقاتل بعضنا ونحن أصدقاء”.
دار نقاش طويل، اعتلت الأصوات بين مؤيّد ومعارض. خلال النقاش لاحظت أنّ “فارس” وهو مدرّس التربية البدنيّة، وكم أثار اهتمامها في مواقع كثيرة، يسترق النظر إليها. أحسّت بخفقان قلبها الأنثوي تجاهه، تمنّت لو انفضّ المتناقشون واقترب منها “فارس” ليخلع عنها هذا اللباس ويعيدها إلى سيرتها الأولى.
أحسّت بحنين للذهاب إلى شاطئ بحر حيفا بعد انتهاء الدوام الدراسيّ. عند مغادرتها المدرسة بدت وكأنّها تتلفّت حولها لعلّها ترى “فارس” هذا الذي أثار أنوثتها وجعل شبقها ينفلت من عقاله، هذا الشبق الموجود داخل الزجاجة محكمة الإغلاق منذ طلاقها قبل خمس سنوات.
كانت دهشتها عظيمة، فقد كان “فارس” في انتظارها على شاطئ البحر على نفس الصخرة التي كانت تجلس عليها هاربة من واقع لا تتفاعل معه، أدركت الآن أنّه يعرف عنها الكثير. بدأ قلبها يخفق بسرعة لا متناهية وكأنّه يريد أن يعربد خارجاً. راحت وهي تقترب من “فارس” تحلّ ربطة عنقها السوداء لتقذفها إلى الرمال، وحلّت أزرار قميصه الأبيض وانتزعت حماّلات صدرها وحرّرت نهديها المتكوّرين.
اقترب منها “فارس” وهو يمنعها من خلع جاكيتها السوداء، احتضنها بقوّة وهمس في أذنها قائلا:” أنت المرأة الوحيدة التي أحسّ بأنّني رجل أمامها”…