– أزوّج الرجل بالشّاحنة التي تناسبه. أقصد أختار له الشاحنة التي تفي باحتياجاته. ألا تشبّهون السّيارة بالمرأة؟ والشّاحنة كذلك. هذا عملي باختصار.
كان هذا التعريف الشفهي يطيح بكلّ إمكانية لعلاقة بين اثنين. بعد أن تكون قد تخطّت حاجز الجمال، وجمالها آخّاذ بشهادة الرؤوس الملتفّة والعيون المفتوحة على حدقتيها والشفاه، نعم الشّفاه المرتخية المُنفرجة، وعقدة الدين والتحرّر والطلاق، كانت امرأة مطلّقة وأمّا لطفلٍ في السادسة. بعد أن تكون قد تخطّت ذلك كلّه، تصفعهم دون خجل أو رحمة، وتطلق لخيالهم عنان الخيبة!
امرأة تتهادى بكعبٍ عالٍ وفستان قصير تختار شاحنة لكلّ رأس، أيّ تفهم في الشّاحنات وفي الرؤوس، رؤوس الرّجال الباحثين عن هياكل حديديّة ضخمة. هذا طبعا إذا واتتك الجرأة أن تعتمد على حسناء في اختيار شاحنتك لرأسك ولعملك وليس لسريرك فحسب، ثمّ بعد ذلك تسوق بثقة عمياء، ليس تماما فالحذر واجب في الشّوارع السّريعة. لا تملك أيضا أن ترفض طالما استعنتَ بشركة مختصّة باستيراد الشاحنات، أو دخلتَ صدفة تبحث عن شاحنة تحتمل الشّوارع الخشنة وتنقل لك النفط ومواد البناء وسيّارات صغيرة معطوبة. إذا حدث ذلك فسينادي مدير الشّركة على امرأة تجاوزت الثلاثين بخمسة أعوام ويقول لها بلطف شديد: عزيزتي الجميلة اعتني بالزّبون ودلّليه من فضلك.
يباغتكَ حقّا ويروح الفكر إلى فنجان قهوة إيطاليّة وقطعة كعك فاخرة وربّما ينساب مع ضحكتها المُثيرة المربكة فيصلُ، أقصد الفكر والخيال، إلى خدمة مُضافة ومبتكرة من مدير الشّركة تجعل اقتناء شاحنة حدثا ممتعا واستثنائيّا.
وهي تعمل في هذه الشركة منذ سنتين تعلّم خلالها ربّ العمل أنْ يقدّر إمكانيّات هذه المرأة التي لا يستوعبها معظم زبائنه، هي إمكانيّات لا يجتهد أحدٌ من المهتمين بالشّاحنات أن يوظّفها قبل خياله الجامح الشّبق لربّما فعلا كانَ سيستمع لمواصفات الشّاحنات الأمريكيّة واليابانيّة والألمانيّة، ولربّما خرجَ من الباب بفكرة واضحة عن شاحنته المستقبليّة.
كان ذلك يحدث كثيرا، الحقُّ يقال، أن يخرج الزّبون وقد عزم على شراء شاحنة تناسبه ولكن لم يكن ذلك للأسف نتيجة مباشرة لمعلومات قيّمة حصل عليها من الوكيلة الحسناء وإنّما نتيجة السّحر المنسكب من صوتها والواصل في أدنى حالاته إلى غدّة الرجولة الصّمّاء. ليس مهمّا ما دام الأمر مُجديا لكلّ الأطراف.
كان مُجديا في صفقات البيع والشّراء، كلّما زادت المبيعات زاد راتبها وقلّت فرصها في علاقة حبّ معافاة قد تؤدّي للزواج يوما ما. ولأنّ الحياة علّمتها الكثير الكثير لم تحرص على إخفاء طبيعة عملها عن أيّ رجل تلتقيه لأوّل مرّة. لا تملك وقتا للمواربة و مدّ الحبل لفرصٍ وهميّة. إذا ظلّ فهو يستحقُّ شرف المُحاولة وإذا تملّص مُرتبكا مُحرجا لم تأسف عليه.
في قائمة الحرج رجالٌ كثيرون نسيتهم بعد لحظات.
حاولت أختّها مرارا إقناعها أن تُخفي هذه المعلومة أو تأجّلها إلى أنْ يقع الرجل في حبال غرامها ولا يعود يملك أمره ثمّ مهما قالت له بعدها فسيضيع في جلبة تعلّقه فيها، ولكنّها امرأة واقعيّة، فاتنة جدّا ولكنّها واقعيّة. تحبُّ الصدق والمباشرة ولا تهدر وقتها في الإيقاع بالرّجال ونصب الفخاخ لهم.
لا يبقى إلا مَن يستحق أن يبقى. هكذا تعلّمت من تجربة الشاحنات، من أوّل ضغطة على البنزين تعرفُ طينها وحديدها. ودون أن تكمل تجربة سياقتها بعيدا عن المرأب الذي تصطفُّ فيه الشّاحنات تكون قد حفظت مواصفاتها في ذهنها؛ مثالبها ومناقبها، الشّاحنة الصّماء.
وقد كانت في قرارة نفسها تعترف بتلك المتعة المازوشيّة وهي تتابع سقوط الوجوه أمامها وابتلاع الريق والتأتأة والرّجفة في الصّوت:
– أزوّج الرجل بالشّاحنة التي تناسبه. أقصد أختار له الشاحنة التي تفي باحتياجاته. ألا تشبّهون السّيارة بالمرأة؟ والشّاحنة كذلك. هذا عملي باختصار.
وتسقط وجوههم ثمّ يغيبون. لم تفكّر طويلا ما الّذي يجعل رجلا يهرب من امرأة تفهم في أمور الشّاحنات؟ أقصد لم تجتهد في إيجاد أعذارٍ لهم ولا في الحقد عليهم. هذه هي وهؤلاء هم.
وحصل أنّ وجها واحدا من الوجوه الكثيرة لم يسقط.
وعلى غير عادتها وجدت نفسها تعوّل على العلاقة بينهما(الرجل صاحب الوجه)، وعلى غير ما اعتادت عليه لسنوات ما بعد طلاقها بدأت تتركُ مساحة من يومها لهذا الرجل. تفكّر فيه، تشتاق إليه وفي بعض الأحيان تتخيّل حياة مستقبليّة معه. وما المانع أن تصير زوجة مرّة أخرى دون عقدة إطار الرجولة وإطار الأنوثة وتقسيم الأدوار والمهام؟ أن تصير وكيلة خبيرة في تسويق الشّاحنات وزوجة، وربّما تعيد الترتيب، أن تصير زوجة ووكيلة خبيرة في تسويق الشاحنات.
- إذا كان ذلك يريحُ الطرف الآخر وهو أقصى تنازل قد أقدّمه، نعم سأكون كريمة جدّا إذا فعلت ذلك معك.
تقولُ لوجهه الّذي احتفظت بصورته في ذهنها حينما ظلّ ثابتا ولم يسقط.
شابّ في مثل عمرها، أعزب قضى سنوات طويلة من عمره في أوروبا، يعملُ مهندسا معماريّا. أنيق وسيم وذو ذوق رفيع في الموسيقا والأفلام وملابس النساء.
– لا أفهم في الشّاحنات ويسعدني أن أتعلّم منك قليلا. من الرائع رؤية امرأة جميلة مثلك تسوق شاحنة وتختبر ميزاتها. هذا يؤكّد على ذكائكِ وأنا أحبُّ المرأة الذكيّة. أخافها أحيانا ولكنّ الغبيّة تقتل رجولتي.
ولم يعد إلى الحديث عن هذا الموضوع مرّة أخرى. صارت مفردة “العمل” رديفا لحياتها في الشركة وحياته أيضا.
– متى تعودين من العمل اليوم؟
– هل كان عملك مرهقا اليوم؟
– أعرف أنّ العمل مرهق هذه الأيّام، إنّها نهاية العام وبداية عام جديد.
– أحبُّ أن أفاجئكِ في عملكِ وأمارس الحبّ معك هناك.
– ألم تذهبي إلى العمل اليوم؟ جيّد. فرصة كي نسهر معا.
ولم يعد هناك ما يذكّرها أنّها طيرٌ غريب في فضاء عاديّ. عاشت عاديّة العلاقة كما يجب أن تكون بين اثنين لا تشغلهما مسائل تعتاشُ منها جمعيات نسويّة ثائرة. كانت الأشهر الثلاثة كافية لكليهما كي يعرفا أنّ الزواج حالة محتملة جدّا ولكنّها ليست ملزمة.
وهو يحملُ لها خاتما في علبة أنيقة، و يبحثُ عن إصبعٍ مناسبة للخاتم، سقط وجهه فجأة:
– لماذا تطلّقت من زوجك السّابق؟ الأمر لا يعنيني فعلا ولا أنتظرُ إجابة ولكن علينا أن نصوغها معا. الإجابة أعني، مثلا أنّه كان يضربكُ أو مخمورا بخيلا، أو حتّى شاذا يضاجعُ الرّجال، ما رأيكُ؟
– ولكنّه لم يكن كذلك. كان رجلا طيّبا جدّا هادئا وما زال. أنا كنتُ امرأة تحبُّ الحياة المجنونة وتكره القيود اللعينة وما زلتُ.
– لا لا هذه أسباب لا تكفي لإقناع أمّي، وهي كما قلتُ لك أعجبت بشخصكِ وبعملكِ.
وسقط وجهه أكثر. كاد يسيلُ على قميصه الأبيض.
– وأنا لن أوجدَ أسبابا لم تكن كي أقنعَ أمّك أنّني امرأة مطلّقة على خلفيّة رجولة عفنة، هل تفهم؟
– لا لا هي مجرّد كذبة لن نناقشها فيما بعد. سنقول لها ذلك وينتهي الأمر وتوافق على زواجنا.
راحت تمسكُ وجهه بيديها وتثبّته في رأسهِ، وهو يسيلُ من أطراف أصابعها. ثمّ تركته يسيل.
– سنقول لأمّك الحقيقة. الحقيقة لا غير: زوجي السّابق كان سائق شاحنة رديئا.
لن أغامر بسائق رديء آخر.
غادرت المطعم وهي تمسحُ عن أصابعها خاتما وبقايا ملامح مادّة متحوّلة.