إنه موسم الجنوب.
انتقلت العائلة إلى أسدود الواقعة بين يافا وغزة.
البيت الذي استأجرته العائلة حوله سور. تدخل من باب أخضر على درجات ثلاث إلى ساحة واسعة اصطفّت على جوانبها مواعين للزهور، منها الفخاري ومنها أشكال من علب الصفيح التي مُلئت بالتراب وحفلت بالورد القدسي والحبق والقرنفل. يسأل يحيى عن الياسمين الذي ألفه في كثير من البيوت في الجليل. في زاوية من الساحة مغسلة عُلّق خزّانها على الجدار ودونه طشت ارتفع على حامل حديديّ يستقبل الماء المستعمل في الغسل.هذه الساحة هي المجال الحيوي المفتوح الذي يتيح لربة البيت أن ترى وجه ربها وتكون في الهواء الطلق دون أن تتعرّض للعيون المتطفّلة. فالسور عالٍ والبيوت المجاورة لا تتجاوز الطابق الأرضي. هنا كانت تستقبل أم يحيى جاراتها الزائرات كما تستقبل الحمام الذي كان يأنس ويهبط ليلتقط بعض الحبّ الذي تقدّمه له. وهي تحتمل ما يخلّفه الحمام أحيانا من الذرق ولكنها تحب حركته ومشيته ووجوده.
هنا كان يلعب يحيى وأخوه. أحبَّ أن يسقي الزهور ويرشّ الحبّ للحمام.. ويستمع إلى أحاديث النساء اللواتي لا يحسبن حساباً لسمعه أو لوجوده.
قالت أم يحيى لزوجها: لا يمكن أن يظلّ يحيى في البيت. ألا توجد في هذا البلد مدرسة يتعلم فيها؟
استفسر الوالد. وفي اليوم التالي ذهب يحيى إلى “الكتّاب“. لم يستطع الوالد أن يرافقه لأنه يبكّر إلى العمل، وبالطبع لا يمكن أن ترافقه الأم. أوكل الأمر إلى جارهم أبو العبد الذي كان ابنه يتعلم في الكتّاب.
هدير الأطفال المنطلق في جوقة حادّة الأصوات وهي تعيد الترتيل وراء الشيخ أعلن عن مكان الكتّاب.
عندما دخل أبو العبد ويحيى أمر الشيخ الأولاد بالسكوت. شرح أبو العبد غايته هامساً فاستقبل الشيخ تلميذه الجديد مرحّباً، فتلك زيادة مرتقبة في الدخل. وضاع يحيى في غابة من عيون الأطفال التي حدّقت فيه تتفحّصه.. فهو غريب حتى في ملابسه.
تربّع يحيى على الحصير مع الآخرين. ولكن البنطلون القصير يعرّض لكمه لحزوز يرسمها الحصير وتؤلم، فكان يرفع جانبه هذا حينا وذاك حيناً آخر ليرتاح بعض الشيء. إلا أنه انغمس حالاً في الدرس. راح يرتّل في الجوقة مقلّداً لفظ الشيخ ونبراته: “بسم الله الرحمن الرحيم. قل أعوذ برب الفَلَق. من شرّ ما خَلَق. ومن شرّ غاسقٍ إذا وقب. ومن شر النفّاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد“.
والشيخ يعود ويعيد. والأطفال ويحيى فيهم يكرّرن ويتبارون في رفع الصوت. والشيخ يُشبع حروف العلّة يمدّها ويعطيها حقّها ويجسّد كل حرف بلفظ مبين.
قبل أن يعود الأطفال إلى بيوتهم في الظهر دعا الشيخ أحد الأولاد وأوصاه أن يعلّم يحيى ما فاته من السوَر، ولم يكن فاته الكثير.
ويعود يحيى الى البيت مع ابن الجيران نشيطاً، وإن آذى الحصير رجله، كان الاستقبال في البيت حارّاً. عانقته أمّه ونظر إليه أخوه بشيء من الغيرة والضيق بالوحدة نصف النهار في غيبه أخيه.
رتّل يحيى السورة لأمّه. وفي المساء رتّلها أمام أبيه والجيران الذين جاءوا يسهرون وأثنى الحاضرون عليه ورضي عن نفسه.
لم يسأل عن معنى الكلمات في السورة، ولم يفسّرها له أحد. أحسّ أنه أمام كلام مهيب لا يحاول أن يتجاوز عتبته.
أخذ يتمعّن في المعاني عندما كبر وشُغل بكثير من التفسير والتأويل. يذكر فرحته حينما قرأ شرح الإمام محمد عبده لسورة “التين“. لم يكن يرتاح للشرح السطحي القائل بالقَسَم بالتين والزيتون.. الشجرتين كما هما. فإذا بالإمام يرى في التين رمزاً لعهد الجنة الذي عصي الأمر فيه آدم وحواء وسترا العورة بورق التين، ذاك عهد أساس في تاريخ البشرية. وقد تلاه عهد آخر من العصيان والعقاب والأمل. فقد كان الطوفان وبعد العسر عادت الحمامة تحمل غصن الزيتون بشرى بالوصول إلى أرض. أما طور سينين فهو عهد الوصايا لموسى.. ثم جاء العهد “وهذا البلد الأمين“. واختلف مفسّرون آخرون في تأويل تلك الرموز إلا أنهم اعتبروها رموزاً وأعجبت يحيى قولة العلماء التي ينهون بها اجتهادهم أو تأويلهم “والله أعلم“.
كان الاحتفال يختم “جزء عَمَّ” يوماً مشهوداً. دخل الأولاد إلى ديوان تصدّره الشيخ وعدد من الرجال وفيهم أبو يحيى. أقبل الأولاد يقبّلون أيديهم. لكنّ يحيى سلّم ولم يقبّل يداً حتى ولا يد الشيخ المعلّم. اثناء التسليم رفع أحد الرجال يده إلى فم يحيى ليقبّلها فأزاحها وعندما سئل لماذا يرفض؟ نظر إلى والده وقال: لا أعرف إن كانت يداه نظيفتين؟ فضحك الجميع. وقال الوالد لذلك الرجل “أعجَبَك؟“.
عندما جاء دور يحيى انطلق يرتّل السور بصوت واثق، يحسن إخراج الحروف، يُشبع حيث يجب ويخطف حيث يجب ويتقن الإدغام بِغُنّة.. أعجِب الشيخ والحضور بترتيله وتجويده فأثنوا عليه وقال له أحد الرجال “أليس خسارة أن لا تكون مسلماً؟“.
ظلت اللغة العربية وجلالها راسخة في وجدان يحيى يطرب لها وتستهويه أغوارها وكنوزها.
ولا يذكر يحيى من الذي علّمهم تلك المحفوظة التي لم ينسها أبداً، أهو الشيخ أم رجل آخر:
أنا عربي – من قوم النبي
أنا لا أرضى – حكم الأجنبي
حبّ بلادي – ملء فؤادي
سيفي يُفني – جيش الأعادي
كان يلقي تلك المحفوظة بحمام أمام الزوّار في السهرات ويرتّل لهم بعض قِصار السوَر. ويحسّ بتقدير يدفعه إلى المزيد من المعرفة والتعلّم.
لم تتّسع جولات يحيى في البلدة ولم تتجاوز الكتّاب إلا إلى مزرعة جارهم أبو العبد. كان ابن الجيران يزور يحيى ليلعب معه بالألعاب التي اشتراها له أبوه من يافا: سيارات صغيرة ملوّنة، عجلاتها من المطاط، يمكنك أن تنزل العجل عن دائرته ثم تعيده. وكانت اللعبة المفضلة أن يطلق كل واحد سيارة يدفعها بقوة وهو يهدر كالسيارة ويطلق من فمه زامورا بين الحين والحين. في زيارته التالية أحضر هذا الولد هدية ليحيى بضع عيدان من قصب السكر من مزرعتهم. وعندما أعرب يحيى عن رغبته في زيارة المزرعة تحمّس الصديق وحدّث والده وجاءت والدته تدعو أم يحيى وابنيها إلى المزرعة. في الطريق سمعوا القطار العابر بين حيفا والقنطرة في مصر مارّاً عن كثب وقد ملأ الجو بشقشقته.. وصفير الاقتراب من المحطة. أما البحر فكان قريبا يغري بزيارة لم تتحقق.
ويذكر يحيى تلميذاً لا ينساه ولا يتذكر اسمه. كان الفنّ ينساب من أنامله على الورق من ينبوع موهبة مدهشة. بخطوط سريعة كانت ترتسم أشجار النخيل يتسلّقها أولاد يجنون ثمرها وتحلق في الفضاء طيور تتفاوت في حجمها وحركات أجنحتها. وكان يرسم صورة للشيخ يتلاعب فيها بملامحه ليثأر من إهانة أو توبيخ. وكان الأولاد من حوله يوجهون إليه اقتراحاتهم لمواضيع رسم مختلفة. طلب إليه أحدهم أن يرسم قطة تفترس فأراً، فقال له:اجلس أمامي حتى أرسم الفأر. وكادا يتخانقان لولا تدخّل الآخرين.
سألت الأم جارتها أم العبد أين يمكن أن تشتري بعض القماش تبيّت به لحافا ومخدّات. قالت الجارة: “السوق يوم الأربعاء، وفيه كل شيء من الإبرة حتى الثوب ومن الإبريق حتى الثور“. وسعد يحيى بمرافقة أمّه إلى السوق. كان ذلك مشهداً جديداً وتجربة جديدة ظل عبقها يعشش في نفسه وتستثيره العطور المشابهة.
يختلف سوق الأربعاء في اسدود عن السوق في القدس القديمة. فالسوق هنا في الفضاء الطلق، كلّ يعرض بضاعة إما على الأرض أو على دكّة مرتفعة. الجو مشبع بروائح التوابل والعطور. زجاجات عطر ال“ميكادو” تطل برؤوس موشحة باللون الذهبي وعلى الصدر إتيكيت أخضر زيتوني عليه صورة لم تعد واضحة في الذاكرة. اجتمعت قرب البائع نساء يساومنه، وترك البائع للعطر الذي يجربنه من زجاجة مفتوحة أن يرجّح موقفه.
من القماش شِقق معروضة في جفن الشمس تلمع فيها الخطوط النبيذية والصفراء البرّاقة، وأخرى تتشكل فيه المساحات النيلية والحمراء بأشكال تأسر العين وتنفذ إلى النفس.
قالت أم العبد: لنمرّ أولاً بالبسطات التي تبيع القماش، نفحص ونسوم، ثم نقرر قبل أن تشتري. وهكذا كان. طالت وقفات الفحص والمساومة وتأرجح السعر قبل ان يستقر على حال. لكن يحيى كان مأخوذاً بالألوان، وبأشكال الأواني الفخارية وببعض الأشكال النحاسية التي احتضنت مرايا وتدلّت منها سلاسل تنتهي بأهلّة صغيرة. وأعجبته أشكال من النسيج الصوفي الملوّن التي قالوا له إنها لزينة الخيل أو زينة الجِمال.
ليس بعيداً يعلو نهيق وصهيل ورغاء وثغاء، وينشر الروث روائحه، والمساومة على شراء الدواب تحتاج إلى خبرة بالأصول – كيف تفحص أسنان الدابة وتتحسس فقرات ظهرها للتأكد من عمر البهيمة وصحّتها. من كان يتصور آنذاك أن تصبح للسيارات بعد بضع عشرات من السنين أسواق مثلها تُفحص شِياتُها وأحشاؤها وتنتشر في هوائها الرائحة الخانقة المنطلقة من عوادمها؟
وتظل “سوق الأربعاء” في أسدود لوحة كبيرة مرسومة في الذاكرة، حيّة بالروائح والأصوات والألوان والحركة. هناك سوق الخميس في بير السبع، وكانت “سوق الإثنين” في الناصرة واسواق أيام أخرى تنشأ في قرى الجليل، بل هناك أسواق في العديد من المدن الأوروبية تحتل مساحات مكشوفة، زارها يحيى عندما كبر، ولكن تظل للسوق في أسدود نكهة خاصة وموقع خاص.
أشار المثل الشعبي إلى ما يفعله البعض حينما تتسع بهم الحال المادية فيستأنفون الزواج بعد أن تكون الزوجة الأولى قد كدحت وشقيت في دعم الزوج وبليت في تأسيس حياة عائلية. وقد أخذت تنتشر في أسدود ظاهرة استيراد ضُرّة تركيّة من قبرص. السعر معروف: خمسة جنيهات فلسطينية.والجنيه الفلسطيني كان أغلى من الليرة الذهبية. “أغربوا تنجبوا“. وإذا فعل فلان ذلك فلماذا لا يجاريه فلان؟
كان الاحتفال بعروس قبرصية في بيت مجاور. كان ذلك العرس موضوع تعليق النساء المجتمعات في الساحة عند أم يحيى، وكيف أن الزوجة الأولى حملت المهرجان على رأسها، تطوف بالطعام وترحّب بالضيوف وتلقم العروس الضرّة قطع اللحم المنتقاة:
-
“عزا المشحّرة على إيش فرحانة؟“.
-
“المعونة مليحة. أجاها مين يعينها على بليّتها“.
-
“يا ستي اللي بجيه ضيف بكرمه، وهاي ضيفة ومتغربة“.
-
“قال أم محمد بدها تتعلم تركي. وهاي جايبلها اياها أبو محمد معلّمة“.
وسألت أم يحيى: “لو كنتِ محلها يا عايشة شو بتعملي؟“.
” قال شو بعمل قال؟ بطلب الطلاق والنفقة أو بخُنقُه“.
كان الضحك يتخلل التعليقات الساخرة ولكن المرارة كانت هناك. فالضرّة مرّة. وهذه ليلة لها ما بعدها بالنسبة لأم محمد، فالغيرة جحر عقارب. وبعض الناس لا يحسّون بالألم حالاً لهول الصدمة، فإذا ما بردت الضربة كان البكاء وصرير الاسنان.
ولكن يبدو أن ام محمد كانت أذكى من الأخريات. ضيّفت وأكرمت واحتفلت لكنها بيّتت.. أمراً.
عندما انتهى الاحتفال وودّع الضيوف وأراد “العريس” أن يخلو بالعروس، قام الأبناء محمد وفاطمة وخديجة بالهجوم على العروس. فوجئت وهي تتلقّى الضربات، وعندما هجم الوالد العريس على أولاده تدخلت أم محمد تحمي العروس وتدخلها إلى غرفة وتغلق الباب عليها “لحمايتها” من غضب الأولاد.ويخطف خالد المفتاح ويهرب. ويهيج الأب ويعربد ويضرب كل من حوله ويصيح، فيهددونه بالصراخ طلباً للنجدة فتلتمّ البلد. فليكن غُلب بستيرة ولا غلب بفضيحة. وما كان له إلا أن يرضخ وهو يرغي ويزبد ويشتم ويهدّد.. ويا فرحة ما تمّت.
ذات ليلة جاء أحدهم يعرض على والد يحيى نقوداً أثرية وجدها في وعاء فخاري وهي يحرث في حقله. تأمل الوالد القطع وسأل أسئلة، لكنه لم يشتر.قال إنه موظف، ومثل هذا الأمر يهدد عمله. ونصح الرجل أن يحذر فلا يعرضها هنا بل يأخذها إلى المدينة، ويحتاط في السؤال. قرّب يحيى رأسه يتأمل النقوش وشكل العملة، أخذ إحداها بيده وتفحصها من وجهيها. رأس إنسان وبعض الإشارات من حولها. قيل ليحيى: “بهذه النقود كان الناس يشترون ويبيعون قبل أكثر من ألف سنة“. في تلك الليلة كان الصبي يجتاز سوقاً كبيرة مثل سوق الأربعاء وحوله ناس يلبسون ملابس غريبة ويتحدث معهم بلغة أخرى، ويتعاملون بتلك النقود. امتدّت يده إلى جيبه فأخرجت مبلغاً اشترى به ثوباً جميل الألوان كأنه قوس قزح.
ومضى يمشي في دهليز عميق يسمع أصواتاً عجيبة، وتمرّ به جماعات من الفرسان تتلاحق، وصوت حوافر الخيل يرنّ صداه على جدران الدهليز، ثم ينفتح أمامه فضاء رحب وبحر متلاطم فيه الزوارق والسفن وبضاعة ينقلها الحماّلون إلى الشاطئ فإذا امرأة تسأله: من أنت وإلى أين تسافر؟ مضى يجتاز متاهات ودهاليز ولم يجد نفسه إلا حين أفاق من حلمه.
ظلّت أسدود تقيم في خاطر يحيى بعد أن شبّ وشاب واكتهل. وراح يقرأ ما أتيح له عنها. قيل إن معنى اسمها “الحصن“، وإنها من المدن الخمس التي سكنها الفلسطينيون القادمون من جزيرة كريت. حفل تاريخها بالمعارك بين الفراعنة والأشوريين. سمّاها هيرودوتس: “مدينة سورية الكبرى“.احتلها الإسكندر وكانت عاصمة المنطقة في العصر الهليني. تنصّر أهلها في إحدى المراحل وصارت مركز أبرشية اشترك أسقفها في مجمع نيقيه.وأقيم فيها مسجد على مزار الصحابي سلمان الفارسي.
لم يدُر بخلد يحيى آنذاك أنه يتصل ببلد ستُمحى صفحته بعد قليل، وأن أهل أسدود سيشرّدون من بلدهم بعد أقل من عقدين. وأن البلدة الهادئة الوادعة سوف يحتلها آخرون يقيمون فيها ميناء كبيراً ومدينة تتسع وتمتد لاستيعاب قوم لا يُرضيهم أن يعيشوا مع أصحاب الأرض الأولين، وأن اسم البلد سيصير “أشدود“، وكم تتغير الأمور حين تنقلب السين إلى شين.
بعد سنين عندما التقى يحيى في رام الله صديقه أبا خالد وعرف أنه من أسدود شُرّد منها أيام العاصفة القاصفة، أحس بقرابة شديدة تجمعهما…ففيهما نُسغٌ من تلك ألأيكة – أسدود.