التقيته بالصدفة، ومن اللحظة الأولى صدّقته؛ فصِدقه لامس القلب. ربما تشابه الأسماء بينهما ذكرني بالأرض والأم والخبز، وبفلسطين؛ فكلمات درويش دائمًا عنت لي الكثير، تلك الكلمات التي خطّها درويش الشاعر على الورق، أسمعها تتردد الآن من درويش الآخر، بصدق كبير ومن صميم قلبه. سمعته يردد هذه الجملة مرات عديدة. سمعته يقولها بقوة وإصرار وحزم. سمعت فيها التفاؤل، وسمعت من خلالها صوت الأمل. سمعته يقول كلمات ليست عابرة للمارّين: “سنكون يومًا ما نريد”.
صدفة. تشابه أسماء. ” أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الانتظار”، كتب شاعرنا محمود درويش! هي الصدفة الجميلة ذاتها التي قادتني إلى ملاعب كرة القدم الفلسطينية لأشاهد المباريات وأرى أحلامًا وطموحًا لشباب، تملأ العالم بأسره وليس فلسطين فقط. وهي الصدفة نفسها التي كشفت لي عالمًا كان قريبًا مني وبعيدًا عني.
“هل في وسعي أن أختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقق؟”، تساءل الشاعر درويش!
الإجابة وجدتها سريعًا في أرض الملعب ومن اللاعبين الفلسطينيين. جواب وصلني بالذات منه، من اللاعب درويش، من خطواته وجريه خلف الكرة.
إنه محمد، ابن قرية الفريديس، الذي حقق مع زملائه إنجازات عظيمة. ولكن الإنجاز الأكبر هو سعيه الدؤوب نحو حلمه وطموحه.
درويش اللاعب وكرة القدم الفلسطينية فتحا لي عالمًا جديدًا، عالمًا مع الكثير من الحدود، وعالمًا لا يعرف أيّ حدود.
أذكر تلك المباراة وذلك الانتظار، وأذكر شغف درويش واستعداده لملاقاة المنتخب العراقي على أرض فلسطين، على أرض ملعب فيصل في الرام، فيصل عبد القادر الحسيني. شاهدته في التدريبات ورأيت إصراره الكبير. ولكني رأيت في عينيه، وفي عينيّ أيضًا، تلك التساؤلات: هل ستقام المباراة أصلًا؟ وهل يستطيع أُسود الرافدين دخول أرض فلسطين؟ فكم مرة تم إلغاء مباريات بسبب الأوضاع الأمنية والحدود والتصاريح؟!
تراهنّا. واختلفت آراؤنا. طال الانتظار. وفي الدقيقة التسعين، أقيمت المباراة الوديّة.
واختلاف الرأي بيننا لم يفسد لهذا الود قضية.
أذكر أيضًا تلك المباراة، وأذكر أنني وصلت إليها متأخرًا. كنت في الرام متوجهًا إلى استاد دورا الدولي. حركة السير في الحاجز كانت بطيئة جدًّا. الجنود الإسرائيليون فتشوا كل سيارة. وبعد ساعة ونصف الساعة من الانتظار، غادرت الحاجز الأول، وتبقى أمامي حاجزان آخران. كانت هذه زيارتي الأولى لدورا الواقعة بمحافظة الخليل. وكانت المباراة ضمن تصفيات كأس آسيا ضد منتخب بوتان. نعم، هناك دولة بهذا الاسم. والمنتخب الفلسطيني اكتسح نظيره البوتاني بعشرة أهداف نظيفة.
ركضي بجانب صديقي درويش من ملعب إلى آخر كشف لي أنه لا توجد حدود للأحلام، ولا حواجز للطموح.
الحواجز الوحيدة هي المعابر المؤدية من ملعب إلى آخر، والحدود الوحيدة هي تلك المتواجدة في مطارات بعض الدول العربية والإسلامية، تلك الدول التي لا تريد التطبيع، وتحكم على فلسطينيتي من خلال جواز سفري. وقد منعتني من السفر معه لتشجيعه، أو ربما منعتني من تحقيق حلمي أنا والسفر إلى دول دائمًا رغبت في زيارتها، فالممنوع دائمًا مرغوب. “يجب أن أحصل على جواز سفر فلسطيني لأتخطى الحدود. تمامًا مثل درويش”.
ركضي بجانبه كشف لي عالمًا آخر خلف الجدار وخلف المعابر والحواجز. كشف لي جانبًا آخر من فلسطين كان مخفيًّا عني. كل مباراة كانت لي درسًا إضافيًّا في الجغرافيا: فبالقرب من بيت لحم يوجد “وادي النيص”، وهناك “شباب” في السموع والخليل يسعون وراء اللقب والكأس، ولكن عرفوا وعرفنا جميعًا أن في القدس “هلالًا” دائمًا يسطع. وليست جغرافيا فلسطين فحسب، فقد تعلمت أن قيرغيزستان تجاور
طاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان. وكلها في آسيا الوسطى. تابعت مبارياتهم ولم أتوقع أن يأخذني شغفي إلى هذه المناطق.
ركضي بجانبه كشف لي أمرًا أهم، كشف لي معنى الصداقة، معنى الوفاء الذي لا يعرف الحدود، كل الحدود، وسنكون يومًا ما نريد.
“ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة.. لم نحلم بأشياء عصية. نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية”، على حد قول الشاعر درويش.