راح فتحي علاء الدين يتأمّل روّاد المقهى القابعة أمام ديوانه. ظهر روّاد المقهى وكأنّهم في شبه خدر بسبب الحرّ الشديد، إنّه أغسطس. بدا الإسفلت أمام المقهى يتلوّى من الحرّ الشديد، ومن مياه الصرف الصحّيّ المنتشرة أمام المقهى ينبعث بخار حارّ لاذع. يتفاعل بسرعة متناهية مع بخار النارجيلة الذي تكاثف في سماء المقهى ، وراح ينسلّ بحذر نحو الفضاء الخارجيّ. كان تنفّس الوافدين إلى المقهى رتيبًا، وكأنّه يحكي عن لون من الحنق واليأس في جلساتهم التي تبدأ ولا تنتهي.
أحسّ برغبة جامحة إلى ترك ديوانه المعطّر، فرشف فنجان قهوته البارد على جناح السرعة، وأطفأ المكيّف الألمانيّ، وراح يجرجر أقدامه النحيلة ليصل إلى “قهوة البلد” القابعة أمام ديوانه. منذ سنوات، وبالنسبة لأهل البلدة هذه السنوات كانت وما زالت وستظلّ حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفتحي علاء الدين هو من يحدّد سياسة البلد العامّة والخاصّة، فهو من يعيّن الموظفين، والمعلّمين، وهو المسؤول عن الكهرباء والماء، وحتّى أنّه يتدخّل في تزويج الشباب.
شعر بارتياح كثير وهو يدخل المقهى، كان يتلذّذ بلسعات أرضيّتها من شدّة الحرـ تمطّى وكأنّه يقوم بتمارين رياضيّة، ويفتح صدره لولوج بخار مياه الصرف الصحّيّ المتفاعلة مع دخان النارجيلة. ظهر الجميع وابتسامتهم الصفراء تعلو وجوههم المكفهرّة لقدوم الوافد الجديد، فالجميع أمامه يتمنّون له العمر المديد لينجوا، وفي داخلهم يتمنّون له الموت الأسود ليخرجوا إلى فضاء النور والحرّيّة.
تقوقع في الزاوية الغربيّة للمقهى التي تشرف على روّادها، ويستطيع منها مراقبة المارّة أيضًا. بعد أن نفث دخان نارجيلته، قال بصوت جهوريّ يسمعه روّاد المقهى والمارّة في الشارع:
-
لم يبق لي سوى أن أموت… لتكون لي جنازة أسطوريّة يحكيها أهل البلدة في جلساتهم التي تبدأ ولا تنتهي…”
عاد في المساء إلى قصره. خلع ثيابه وتبطّن الكنبة السوداء القابعة في وسط صالونه الفاخر، وطلب من زوجته الجديدة أن تفحصه بصفتها ممرّضة. راحت تمرّر يدها الناعمة الصغيرة على بطنه الضامر، وتتحسّس أضلاعه الناتئة، وذراعيه وساقيه اللذين ظهرا كجزء من هيكل عظميّ متكامل. مرّرت يدها على بطنه الضامر مرّة أخرى لتصل إلى مكمنه. عندها قال بصوت جهوريّ فيه نغمة مرحة ساخرة: “ستبقين عذراء يا حسناء البلدة…”. أجابته بضحكة صفراء باهتة، وهي ما زالت تداعب مكمنه: “ما من حسناء تبقى عذراء بعد أن يضمّها فضاء أنت فيه…” قالت ذلك وهي تحاول جاهدة إحياء ميّت.
-
” لقد تزوجتك وأنت ابنة صديقي الحميم لتمريضي….” قال ذلك وهو يراقب ردّة فعلها.
-
” يقولون إنك بأحسن حال… ولكنّك تتظاهر بالمرض لاستدرار العطف من أهل البلدة“. قالت ذلك وهي تبتعد عنه لتقف كتمثال مصريّ أمام النافذة التي تطلّ على الحقول الواسعة التي يمتلكها، ويمتلك الناس التي تعمل بها.
إنّها ليلة غريبة، غيوم سوداء تسمّرت فوق بيوت البلدة، بالرغم من أنّه أغسطس، ما من نجوم في السماء، تهبّ الرياح مثقلة بالروائح النتنة القادمة من الحقول العارية.
فتحي علاء الدين رجل يتقن الصمت، تربّع على كرسيّه الجلديّ الأسودـ، بعد أن لبس ثياب نومه، وراح يراقب بصمت رهيب رماد سجائره المتناثرة في صحن من مرمر أسود. يبدو أنّ أفكاره قادته إلى مسألة تعيين مؤذّن جديد للبلدة، لأنّه استغرق في صمت طويل فيما هو يتأمّل مأذنة الجامع الكبير التي ظهرت من النافذة وكأنّها تذكّره بأمر ما. عندما عاود الكلام من جديد كان قد عاد إلى الأرض الصلبة. قال لزوجته الجديدة، وهو يعاود تأمّل رماد السجائر.
-
” أنت تعلمين أنّني في هذه البلدة بنيت مجدي لأنّني صديق الجميع… تزوّجتك وأنت فتاة صغيرة لأنّني صديق والدك وسأعيّن أخيك “عمران متعب” مؤذّنًا غدًا لأنّه ابن صديقي…”
-
” عندما تكون صديقًا للجميع… فأنت لست صديقًا لأحد“، قالت ذلك وهي تتوارى تحت غطاء سريرها.
وقف فتحي علاء الدين مطوّلًا أمام المرآة الكبيرة، وهو يراقب وجهه الشاحب المائل إلى الصفرة. وجسده النحيل كأنّه هيكل عظميّ خرج من قبره. لم يشفع له المال الكثير الذي جمعه في استرداد صحّته المنهارة. تذكّر الشيخ الغريب الذي أراد إعطاءه بعض المال قبل أسبوع أمام باب المسجد، فقذف الرجل الغريب قطعة المال المعدنيّة بعيدًا، وهو يقول لفتحي علاء الدين: “المال روث الشيطان…”.
لبس ثيابه بسرعة متناهية. في مدخل القصر استقبلته موجة عارمة من تغريد طيور “الدوريّ” وكأنّها فرقة عسكريّة تذكّره بأنّه على موعد عظيم. كانت زوجته الشابّة تنتظره أمام البيت، قالت له دون أيّ تمهيد دراميّ: ” في الليلة الماضية حلمت بقلع ضرس لعين…”
سرت قشعريرة في جسده وهو يحاول أن يطالع ويحلّل نظراتها اللعينة. ولكنّه عاد وجمع قواه المتناثرة وتعجّل الوصول إلى المسجد. كانت دهشته غريبة فقد تجمع أهل البلدة والبلدات المجاورة ليشهدوا تنصيب المؤذّن الجديد الذي سيتعيّن عليهم سماع صوته كلّ يوم.
عندما تعانقت عقارب الساعة وتسمّرت الشمس في كبد السماء، واقترب موعد أذان الظهر، بدأ الجميع يراقب “فتحي علاء الدين” الذي اعتلى المنبر ووقف على درجاته في هيئة خطابيّة، ومدّ يده مناديًا: “أنت أيّها الوسيم… اقترب“. كان المنظر غريبًا، فقد وقف عشرة شباب، كلّ يظنّ أنه هو المنادى… ولكنّ عمران متعب تجرّأ وتقدّم حتّى وصل درجات المنبر، عندها نزل فتحي علاء الدين درجات المنبر واحتضن عمران متعب وهمس في أذنه: “صحيح أنّك دعيت للصلاة… ولكنّك لم تدع للإمامة… فعد إلى مكانك…”
عاد عمران متعب يجرجر أذيال الهزيمة… أمّا فتحي علاء الدين فأحسّ بوجع يسري في جسده بعد أن عادت أوجاع ضرسه فغشي مغمًى عليه على درجات المنبر.
*الجعظريّ: الذي يدّعي ما ليس فيه.