د.أريج صباغ خوري
تمثّل تجربة “مكتوب”، فعلًا، نموذجًا جديدًا ومغايرًا للترجمة، نموذج فيه حوار، ليس بين النصّ نفسه والمترجم، وإنما بين المترجمين أنفسهم، مترجمين فلسطينيّين من إسرائيل ومترجمين يهود، فينتج التفاعل الثنائيّ اللغة طبيعة مختلفة لسيرورة الترجمة والعلاقات والنتاج الثقافيّ والسياسيّ. كيف يمكن أن نقرأ هذا النموذج من منظار العلوم الاجتماعية، وتحديدًا من المنظومة الفكريّة (براديم) للاستعمار الاستيطانيّ؟
هناك عودة لمنظومة “الاستعمار الاستيطانيّ” في الأبحاث بالعلوم الاجتماعيْة والعلوم الإنسانيّة، يقودها أكاديميّون فلسطينيّون، وهي منظومة ترى إسرائيل كمشروع استيطانيّ/كولونياليّ أو إحلاليّ (Settler colonialism)، وتصف كيف تأتي مجموعة مستعمرة إلى بلاد أخرى، كمهاجرين، وتستوطن وتحلّ محل السكان الأصليّين، ولهذا السبب تسمى استيطانية إحلاليّة. هذه المنظومة الفكرية كانت موجودة، وقد رأت منظمة التحرير والقيادات الفلسطينيّة الاستعمار الصهيوني في فلسطين ضمن هذه المنظومة الفكريّة، وقد غابت هذه المنظومة لسنوات طويلة، ولأسباب شرحها يطول، لكنّها عادت لتتخذّ مكانًا فكريًا وسياسيًا مركزيًا في السنوات الأخيرة، تحديدًا بعد فشل حل الدولتين وعودة طرح حل الدولة الواحدة.
لماذا هذا الأمر يهمني عند الحديث عن “مكتوب” في هذا السياق؟ لأنّ “مكتوب” هو نموذج جديد للترجمة في إطار منظومة سياديّة مختلفة يتنازل فيها المستعمر عن امتيازاته. ما كان لمشروع “مكتوب” أن يكون قائمًا ضمن منظومة فكريّة غير منظومة إزالة الاستعمار الاستيطانيّ. الفلسطينيون في إسرائيل، جزء من مجموعة ولدت وعاشت بعد النكبة، في فلسطين، وصارت تعرف العدو بلغته، بثقافته، وقرروا أن يسخّروا هذه المعرفة ليكونوا جزءًا من منظومة إزالة الاستعمار، ليس إزالة المستعمر جسديًا، ليس من خلال إمكانية عنف جسدي، وإنما إزالة استعماريته. يأتي الفلسطينيّ، بعد معرفته باليهودي، بمشروع جديد، من منطلق قوة، من منطلق وكيل، فيقول أنا في هذا الحيّز، أنا صاحب البلد، أنا من السكان الأصليين هنا، وأشارك في مشروع ترجمة تُترجّم فيه للعبريّة نصوصٌ مضمونها يسرد كارثة الفلسطينيين التي حصلت هنا ويترجمّها إلى العبريّة.
الأدب أرشيف الشعوب التي فقدت أرشيفها. لدى المستعمر، أو أي مجموعة مسيطرة، الامتياز أن تقول إن “هذا الأدب ليس أرشيفا، هذا ليس حقائق نعتمد عليها”، لكن هذا المفهوم تزعزع منذ زمن كتابة التاريخ والعلوم الاجتماعية. الروايات هي أرشيفنا، وأنا ككاتبة وباحثة أكاديمية، أستخدم الأدب كجزء من أرشيف فلسطيني. الأديب سلمان ناطور، وهو من مؤسّسي “مكتوب”، يمكن اعتباره من أول المؤرخين الفلسطينيين، لأنّه ذهب إلى القرى الفلسطينيّة، ذهب إلى اللاجئين وأجرى معهم مقابلات وأرشّف النكبة. لقد قال لي سلمان ناطور في مقابلة أجريتها معه:”أنا أجريت مقابلات مع المهجرين من القرى التي تهجّرت قبل الـ 48، ولم نستطع نشرها في “الاتحاد” لأن الاتحاد كانت تحت الرقابة العسكرية، نشرناها في مجلة “الجديد” الأدبيّة”. الأدب هو وسيلة المُستعمَر للأرشفة.
لذلك، فإن ما يقوم به “مكتوب” هو في جزء منه نقل أرشيف النكبة من العربيّة إلى العبريّة. نحن الفلسطينيّون في إسرائيل، الذين نقرأ العبريّة ونجيدها، مجموعة شريكة في هذا المشروع، الذين علينا أن نعتبره فعل مقاومة، حيث لا نقرأ فقط ترجمة تجربة الاضطهاد، إنما نكتب ترجمة أفعال المستعمر فينا بلغته كي نعيد سرد تاريخنا. من منطلق قوة، نضع هذا المشروع على الطاولة ضمن السيادة التي يتحرر اليهودي فيها من استعماريته ويعود الفلسطيني إلى فلسطين التي هو فيها.
*قدمت هذه المداخلة خلال ندوة تحت عنوان “معرفة العدو أم اشتباك ثقافي” نظمتها سلسلة مكتوب في مقهى ليوان الثقافي بالناصرة بتاريخ 27.6.2019. بالامكان الاطلاع على بقية المداخلات على موقعنا، هنا.