انطوان شلحت
في مداخلتي هذه، سأحاول أن أوجز بعض الإضاءات والاستنتاجات الفكريّة المتعلّقة بما اصطلحنا على تسميته بـ “سياسات الترجمة” من العربيّة إلى العبريّة. في البداية، عليّ أن أنوّهَ أن ما سأذكره بالنسبة لسياسات الترجمة من العربية إلى العبرية قد ينطبق مئة بالمئة أيضًا على سياسات الترجمة في ما يتعلق بالترجمة من العبريّة إلى العربيّة. لكن، وبما أنّ حديثنا هو عن الترجمة من العربيّة إلى العبريّة سأتركّز في هذا المحور فحسب.
بطبيعة الحال، عندما نتكلّم عن سياسات الترجمة، يمكن أن نتكلّم حول مسألتين؛ المسألة الأولى تتعلق بالسياسة المرتبطة بـسؤال “ماذا نترجم؟” والمسألة الثانية تتعلّق بسؤال “كيف نترجم؟”. لن أتطرق في مداخلتي إلى سؤال “كيف نترجم” وسأتركز أكثر في سؤال “ماذا نترجم؟”.
قبل حوالي ثمانية أعوام، احتفل بمرور 75 سنة على تأسيس مؤسسة “بياليك”، وفي تلك المناسبة، تمّ الكشف عن وثائق تتعلّق بكلّ عملية الترجمة، ومن تطوع لهذا الكشف، كان مردخاي ناؤور، المؤرخ المشهور في ما يُسمّى “تاريخ أرض إسرائيل”. نشر ناؤور بعض الوثائق التي يتبيّن منها أنّ من انشغل بقضية الترجمة إلى اللغة العبرية كان دافيد بن غوريون نفسه. عندما تأسست مؤسسة “بياليك”، كانت تابعة للوكالة اليهوديّة، وكان بن غوريون أحد قادة الوكالة اليهوديّة، ولكن بعد أن أصبح أول رئيس حكومة إسرائيلية اهتمّ بمسألة الترجمة، إلى درجة أنّه قام بتشكيل لجنة توجيه لمناقشة “ما الذي يجب أن يُتَرَجم إلى اللغة العبريّة”. في عام 1958 ضمّت هذه اللجنة، حسب ما كشفته الوثائق، ثلاثة بروفيسورات: مارتين بوبر وشمعون هلكن وأهارون كتسير، كما ضمّت زلمان أران، الذي كان وزير التربية والتعليم ، ومن سبقوه في المنصب زلمان شازار، وبن تسيون دينور، والشاعر والمترجم رؤوبين أفينوعام، ومدير مؤسسة بيالك في تلك الفترة موشي غوردون والمعاونان المقربان من بن غوريون تيدي كوليك ويتسحاك نافون.
قدّم مردخاي ناؤور هذه الوثائق حول الجلسات التي كانت تعقدها لجنة التوجيه هذه، وما لفت نظري أنّه في الجلسة التي عقدت يوم 21 كانون الثاني/ يناير 1958 أكّد بن غوريون، بحسب محضر الجلسة، أنّ مشروع الترجمة إلى العبريّة يجب أن تتولاه الجامعة العبرية، وقال بالحرف الواحد: “في الوقت الحالي، أقترح أن نعدّ قائمة لا تزيد عن عشرة كتب أو عشرين كتابا”، والجملة التي بعدها مهمة: “بشرط أن توفّر الصورة العامة والاتجاه الذي نرغب بالسير فيه”. هذا يعني أنّ الترجمة من العربيّة إلى العبريّة، أو الترجمة عمومًا إلى العبريّة، بدأت حسب خطة ممنهجة، ومثل هذا الأمر غير مستهجن على قادة الحركة الصهيونيّة الذين أصبحوا فيما بعد قادة إسرائيل، كما يتكشّف الآن من الأبحاث الجديدة التي تتركز حول كلّ التداعيات الثقافيّة لما حدث إبان النكبة في 1948. على سبيل المثال، ما حدث بالنسبة للمكتبات، وما حدث بالنسبة للأرشيفات الفلسطينية، والدراسات التي أنجزها باحثون مثل غيش عميت وأريئيل أزولاي ورونا سيلع أيضًا، تتوسّع في هذه الممارسات، وقد ترجمت هذه الأبحاث إلى اللغة العربيّة.
كذلك، يتبيّن من محاضر جلسات أخرى في هذا الشأن أنّ بن غوريون عرض قائمة الكتب المفضّلة من وجهة نظره (شملت القائمة 20 كتابًا)، مشيرًا إلى أن الأولويّة يجب أن تعطى للأدب اليونانيّ والأدب اللاتينيّ والأدب الهنديّ والأدب الصينيّ والأدب الإنجليزيّ والأمريكيّ، وإما للأدب الفارسيّ أو الأدب العربيّ. أي أنّه لم يخصّص الأدب العربيّ، إنما “إما الأدب الفارسيّ أو الأدب العربيّ”، بالإضافة إلى الأعمال لليهودييّن فيلون إسكندري وشبينوزا. في ما يتعلق بالأدب العربيّ، ذكر بن غوريون مقدمة ابن خلدون، وكان فعلًا من أوائل الكتب التي ترجمت إلى العبريّة. ملخص القول هو إنّ كلّ عملية الترجمة إلى العبريّة من مختلف اللغات، فما بالك من اللغة العربية، كانت تجري وفق خطة ممنهجة أشرف عليها بن غوريون بشكل شخصيّ.
لكل قاعدة يوجد استثناء، بطبيعة الحال، والاستثناءات في مجال الترجمة هي تلك التجارب التي نأت بنفسها عن هذه الخطة الممنهجة، التي هجس بها بن غوريون وهجس بها كل الذين فكروا بكل مشروع الترجمة. سلسلة مكتوب هي قمة التجارب الاستثنائيّة والخارجة عن المألوف في مجال الترجمة من العربيّة إلى العبريّة، وهي بنيت على ركام تجارب أخرى غير مألوفة واستثنائية، بدأتها تجربة “مفراس” في سنوات الـ 80، التي ترجمت أعمالًا لغسان كنفاني ولإميل حبيبي ولآخرين، وبعد “مفراس”، جاءت التجربة الأكثر أهمية والتي يجب أن نتوقف عندها ونناقشها وهي تجربة دار “الأندلس” للنشر، التي أسستها ياعيل ليرر في عام 2000 وأصدرت ترجمات لشعراء وكتاب عرب أبرزهم: محمود درويش وسيرين الحسيني شاهين، وجبرا إبراهيم جبرا وطه محمد علي من فلسطين، وإلياس خوري وحنان الشيخ من لبنان، ومحمد برادة ومحمد شكري من المغرب، والطيب صالح من السودان.
تجربة دار النشر “الأندلس” هي تجربة جدًا مهمة، ولكن هذه التجربة انتهت. إذا أردنا ان نلخص تجربة “الأندلس”، يمكن أن نستأنس برأي صاحبة الدار حول هذه التجربة، حيث قالت إنّ كل عملية الترجمة لم تتخلّص ممّا تسميه وطأة دعاوي التطبيع الثقافية، بمعنى أن القارئ الإسرائيليّ أقبل على هذه الترجمات، ولكن كان في ذهنه أنّ كل هذا المشروع يجب أن يخضع لسياسة التطبيع الثقافية بين إسرائيل والعالم العربيّ.
مهم أن أشير في هذا السياق إلى الخلاصات التي تحدث عنها محمود درويش عندما سُئل كيف ينظر إلى ترجمة أدبه إلى اللغة العبرية، وهل يُقرأ مترجمًا لمجرد كونه أدبا أم لأنّ كاتبه هو محمود درويش، “الشاعر القومي” للشعب الفلسطينيّ. في حينه أجاب محمود درويش إنّ القارئ الإسرائيليّ لا يهتم فيه، وبالتالي هو لا يريد أن يقرأه، قد يتحملّه كشاعر مجازيّ، لكن لن يتحمّله كشاعر مباشر عندما يتحدّث عن القضية الفلسطينيّة. خير دليل على هذه الخلاصة، هي ما كتبته لمجلة “حداريم” الأدبيّة، التي كانت تنوي، في عام 1988، إصدار عدد خاص عن محمود درويش، وقرّرت بسبب قصيدة “عابرون في كلام عابر” أن تحجب الكثير من القصائد، وقد كتبت في حينه: “كان مفروضا للصفحات التالية أن تحمل خمس قصائد جديدة لمحمود درويش ترجمها إلى العبرية يوفال سنير، لكن قصيدة درويش الأخيرة، التي تدعونا للنهوض شيبا وشبانا حاملين موتانا وذكرياتنا والانصراف من هنا، من أرضنا من بحرنا من كل شيء (اقتباس)، لا تدعني أضمّن هذا العدد قصائده الأخرى. بهذه القصيدة، عبر دوريش الهاوية المفتوحة بين الشاعر المقاتل والباحث عن الصخب الكلامي. هذه ليست قصيدة سياسية أو موقفا مهمًا، مهما تكن شجاعته أو مرارته، إنما خطاب كراهية وتحريض”.
*قدمت هذه المداخلة خلال ندوة تحت عنوان “معرفة العدو أم اشتباك ثقافي” نظمتها سلسلة مكتوب في مقهى ليوان بالناصرة بتاريخ 27.6.2019. بالامكان الاطلاع على بقية المداخلات على موقعنا، هنا.