د. هدى أبو مخ
سأتطرق في مداخلتي، إلى توجهين في الترجمة من العربيّة إلى العبرية؛ التوجه الأول هو توجّه مبنيّ على نظرة استشراقية، والتوجّه الثاني هو توجّه يعتمد على نموذج ثنائيّ القوميّة في الترجمة.
في السنة الماضية، صدر عن دار النشر “ريسلينغ” كتابٌ تحت عنوان “حريّة” يحتوي على أكثر من 50 عمل أدبيّ لأكثر من 40 كاتبة من العالم العربيّ، وموضوعها هو الربيع العربي. للوهلة الأولى يمكن اعتبار هذه الخطوة مباركة وهامّة، خصوصًا على ضوء حقيقة أن الكاتبات العربيات لا يترجمن عادة إلى اللغة العبرية، إذ أن ما تترجم، بالأساس، هي أعمال الكتاب الرّجال. الكاتبة خلود خميس، وهي كاتبة من حيفا، قامت بعد أن توجهوا لها من “ريسلينغ” طالبين منها أن تشارك في ندوة حول الكتاب، بفحص إذا ما قامت الكاتبات العربيات بالمصادقة على نشر أعمالهن الأدبيّة، فتوجهّت لعدد منهن لتكتشف أنّ حوالي ثلث الكاتبات لم يعطين أي مصادقة. ومن هنا تمّ إلغاء الندوة وقامت ضجة كبيرة في العالم العربي، أدّت إلى سحب الكتاب من موقع “ريسلينغ” ومن كلّ المكتبات التي قامت بتسويقه.
لا تميّز هذه النتيجة التي آل إليها الكتاب، أي العاصفة والضجة وسحبه من المكتبات، مآل كلّ الترجمات من العربيّة إلى العبريّة، لكنّ النظرة الاستشراقيّة لهذا الكتاب تميّز بالفعل الترجمات من العربية إلى العبرية في العصر الحديث، التي تضمّنت منذ بداياتها في 1876 (بالتزامن مع تأسيس الحركة الصهيونيّة) نظرة استشراقية، وتعتبر هذه السمة سمة بارزة جدًا ومستمرة. ما هو المقصود بنظرة استشراقية في هذا السياق؟ المقصود، أولًا، التعدي على حقوق النشر، وثانيًا تعزيز صورة سلبيّة عن الثقافة العربيّة، من خلال التركيز على مكوّنات معيّنة لهذه الثقافة كأنّها جوهريّة لها وتميّزها عن غيرها. مثلاً، تصوير الثقافة العربيّة كثقافة مضطهدة للنساء. لا شكّ في أن هناك اضطهاد للنساء في العالم العربيّ، وهو مرفوض، لكن هناك اضطهاد للنساء في جميع الثقافات والمجتمعات. مثال عيني على هذا الأمر، في الكتاب المذكور تطرق بالغ الأهمية لموضوع اللباس الدينيّ، وضمن محاولة شرح سبب اللباس الدينيّ للكاتبات والنساء المتظاهرات في ميدان التحرير، تمّ التعاطي مع اللباس غير الدينيّ كتمرد على المعايير الثقافيّة الشرقيّة والقمعيّة، في حين تمّ، عبر نوع من النظرة الاستشراقية، إنكار الحقيقة البسيطة بأنّه يمكن للنساء أن يضعن منديلا لأنهن مؤمنات مثلًا! لقد صرّحت “ريسلينغ” أن الهدف هو إسماع صوت الكاتبات، لكن في الواقع ما تم هو أنه تم إسماع صوتهن بالقوة، غصبا عنهن، وفي هذا عنف واستعلاء.
أما بالنسبة لحقوق النشر، قامت الكثير من الكاتبات اللواتي نُشرت قصصهن دون الحصول على إذن منهن، بمقارنة هذا الأمر بسرقة الأراضي. لقد وصفت إحدى الكاتبات المسألة بأّنّه ليس من المستعبد على ثقافة قامت بسرقة الأراضي، ولا على دولة قامت بسرقة الأراضي أن تقوم بسرقة الأفكار والقصص الخاصة بها. كذلك، تتعلّق مسألة التعدّي على حقوق النشر هنا بمسألة “التطبيع”، إذا أنّ رفض الكتاب العرب نشر أعمالهم بالعبرية هو، عمليًا، تعبير عن موقف سياسيّ رافض للتطبيع مع إسرائيل، ولهذا فإنّ العمل الذي قامت به “ريسلينغ”، من هذه الناحية، يحتوي على نوع من ممارسة القوة، فرض وجهة النظر بالقوّة، إذ كانت تعرف أن الكاتبات لن يقمن بالتوجه إلى المحكمة في إسرائيل بسبب رفضهنّ التطبيع. لا بد من التنويه هنا بأن مسألة حقوق النشر ليست مسألة ماديّة، بالأساس، أي ليس الهدف منها هو المردود الماديّ، بل الأهم هو المردود السياسيّ، ولذلك فإن التعدي على حقوق النشر يشكّل فعلا سياسيًا عدائيًا تجاه ثقافة الأصل، وفي هذه الحالة تجاه الثقافة العربيّة.
إذًا، نموذج “حرية” هو نموذج يمثّل بقايا التوجه الاستشراقيّ، وحتى لو كانت هناك توجهات ليبراليّة ضمن هذا، إلا أنّها غير قادرة على الخروج من القوقعة التي تقبع فيها. في المقابل، هناك توجه آخر، يمثّله نموذج “مكتوب”، إذ يُقدم نمط ترجمة لم يكن قائمًا حتى انطلاقة “مكتوب”، وهو مبني أولًا على شرط وضرورة الحصول بداية على حقوق النشر، أي يرفض نشر القصص والكتب التي لا يوجد لديها حقوق لنشر ترجمتها إلى العبريّة، وثانيًا على نموذج ترجمة ثنائية القوميّة، إذ لا تقتصر الترجمة على مترجم واحد يقوم بترجمة نص معين إلى لغته، اللغة العبريّة في حالتنا، بل هو مشروع تتابع الترجمة فيه طريقها إلى محرّر ترجمة عادة ما يكون من الثقافة الأم، في حالتنا، الثقافة العربيّة. أتحدّث عن هذا النموذج بعد تجربة العمل ضمنه، إذ كنت شريكة في تحرير ترجمة روايتين لإلياس خوري:”أولاد الغيتو” و”نجمة البحر” (وهو كتاب جميل جدًا، لذلك قمت بإنجازه خلال فترة وجيزة!). يضمن هذا النموذج، عمليًا، أن تكون ثقافة الأًصل موجودة خلال عملية الترجمة، وهذا أمر يخلق فرقا كبيرا، وهو لا يقتصر على المترجم ومحرّر الترجمة، إذ هناك اجتماعات حول ترجمة الرواية، من قبل فريق مترجمين ومحررين يهود وعرب، لمناقشة الترجمة والحوار حولها. نتحدث هنا عن نموذج جديد لم يشهد له مثيل وهو آخذ بالتطوّر.
*قدمت هذه المداخلة خلال ندوة تحت عنوان “معرفة العدو أم اشتباك ثقافي” نظمتها سلسلة مكتوب في مقهى ليوان الثقافي بالناصرة بتاريخ 27.6.2019. بالامكان الاطلاع على بقية المداخلات على موقعنا، هنا.