د. رائف زريق
عندما نتحدث عن الترجمة، كفعل سياسيّ ثقافيّ، تختلف المدلولات في حالة الترجمة من العبريّة إلى العربيّة عن حالة الترجمة من العربيّة للعبريّة، وتطرح أسئلة مختلفة. تثير إشكالية الترجمة من العبريّة إلى العربيّة حساسية أكثر لدى القارئ العربي، لأنّه يستحضر الخطاب اليهوديّ أو الصهيونيّ في أرض عربية، وهذا سؤال أصعب من سؤال ترجمة العربية إلى العبريًة، التي فيها اقتحام لغويّ رمزيّ لكاتب عربيّ لجمهور يهوديّ. أي، باستعارات جنسيّة، هنالك فرق من يلج من؟
تثير الترجمة من العبريّة إلى العربيّة حساسيات تطبيع من نوع آخر، لأن هناك تدرج بين الفهم، التفهّم والحكم. يتعامل العربيّ مع الصهيونيّة على أنّها حركة استيطانيّة عنصريّة، فهو يبدأ الكلام من أنّ عنده حكم، وأي تراجع عن عالم الحكم الأخلاقيّ، أي العالم الذي يضمن قراءة الآخر، هو دعوة إلى الفهم الذي قد ينتهي إلى التفهم. وما ينتهي التفهم، يعيق الحكم. يعني، إذا أردت أن تفحص مجرم وخلفيته، حتى القاتل المتسلسل، إذا عدت لطفولته، إذا عدت للتسلسل التاريخيّ، ولنشئته الاجتماعيّة، ولتركيبته النفسيّة، ستجد نفسك في لحظة معينة غير قادر على الحكم. يفترض الحكم أن هناك لحظة معينة في التسلسل الزمنيّ في قانون السببيّة، لحظة حاسمة تتوقف فيها عملية التسلسل وتتوقف عملية الفهم ويرجأ التفهم. بالتالي، هناك حساسية في الترجمة من العبريّة إلى العربيّة، خوف من فقدان البوصلة السياسيّة الأخلاقيّة، من المزيد من التفهم، ما يعني إرجاء الحكم، والدخول في حالة حميميةّ ما بين المُستعمَر والمُستعمِر، وإلغاء حالة الغضب.
الحديث عن الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة العبرية هو حديث آخر. أولا، يجري الحديث عمّا يترجم، هناك فرق بين أن تترجم عملًا أدبيًا يُحدث خلخلة في منظومة الرضى والهيّمنة للفكر السائد باللغة العبريّة، ويكون عبارة عن قذف حجر كبير في مياه راكدة يخلخل المفاهيم الأساسيّة التي تساعد المجتمع اليهوديّ على إنتاج هيمنته الفكريّة، ويدخل الفلسطينيّ إلى الوعي اليهوديّ، وبين أن تترجم موضوعات تعيد إنتاج الفكر المهيّمن أصلًا. بالتالي، المضمون يصنع فرقًا.
لكن، رغم المضمون، هناك سؤال مهم يجب عدم التغاضي عنه، وهو: عندما توافق على الترجمة، فأنت تفترض، ككاتب، استمرار الحوار، تفترض أنّ هناك استمرار للكلام، حتى لو لم تتحدث أنت. هناك مقولة لغسان كنفاني في رواية “عائد إلى حيفا”، عندما يدخل سعيد (الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية) إلى البيت (بيته الذي هُجّر منه) ويقول لساكن البيت (الإسرائيليّ الذي يسكن في بيته): “ما جئت لأقنعكم لتخرجوا من البيت، تلك قضية أخرى بحاجة إلى حرب”، أي لا يمكن لسعيد أن يقنع من طرده وسكن في بيته، وبالتالي فالقبول بالترجمة هو قبول بالدخول في حوار، وهذا يفترض تصوّر معين عن طبيعة العلاقات بين الشعبين، يفترض بأن هناك صراع لكنه صراع ليس لدرجة الموت، هو صراع مع عدو، لكنّه صراع يحتمل الفوز والخسارة ويستثني فكرة الإبادة أو الطرد. وهذا موقف سياسيّ. من يعتقد أن الصراع مع الإسرائيليّين هو كما اعتقد غسان كنفاني يحلُّ فقط بالحرب، أعتقد أنّه سيواجه مشكلة في عملية الترجمة، لكن من يعتقد أن السجال الثقافيّ والفكريّ والسياسيّ هو جزء من الصراع، وهنالك فرق بين الصراع والحلّ، ليس لديه مشكلة.
أعتقد أن من يواجه مشكلة في السجال والحوار، هو الصهيونية، فالصهيونية التي جاءت حتى تطبّع الوجود اليهودي في العالم تقوم على فكرة عدم التطبيع مع الشرق الأوسط. لا تحتمل الصهيونية أيّ مشروع سلام، لأنّه في اللحظة التي يتحقّق فيها مشروع السلام تفقد مبرّر وجودها. وبالتالي، فإن الفكر الناظم للفكر الصهيونيّ، بنخاعه، هو العداء والاستعداء وحالة الصدام التي تقوم على الرفض الفلسطيني. يعني الرفض الفلسطينيّ هو ليس ظاهرة إضافية على الفكر الصهيونيّ، إذ لا يتبلور المسوغِّ الأخلاقيّ للصهيونيّة ولا يستقيم إلا بالرفض، وإذا لم يوجد هناك رفض فلسطينيّ، أو رفض عربيّ، على الصهيونية أن تستدرج الفلسطينيّ دائما إلى حالة رفض معين لأنه بذلك فقط تجد مبرّر وجودها. لا تستطيع إسرائيل أن تعيش حالة حوار، يجب أن تصنع أعداء دائمًا وأبدًا، وبالتالي أعتقد أن من يخاف الحوار في نهاية الأمر هو المؤسسة الإسرائيليّة.
*قدمت هذه المداخلة خلال ندوة تحت عنوان “معرفة العدو أم اشتباك ثقافي” نظمتها سلسلة مكتوب في مقهى ليوان الثقافي بالناصرة بتاريخ 27.6.2019. بالامكان الاطلاع على بقية المداخلات على موقعنا، هنا.